قال الماوردي : وهذا صحيح إذا لم يحنث ، وهكذا لو حلف لا يدخل هذا البيت فانهدم ، وصار براحا لم يحنث . حلف ، لا يدخل هذه الدار ، فانهدمت وصارت عراصا ، فدخلها
وقال أبو حنيفة : إذا دخل عرصة الدار بعد انهدامها حنث ، وإذا دخل عرصة البيت بعد انهدامه ، لم يحنث فوافق في البيت ، وخالف في الدار ، إلا أن يبني مسجدا أو حماما ، أو يجعل بستانا ، استدلالا بأن اسم الدار ينطلق على العرصة بعد ذهاب العمارة ، كما ينطلق عليها مع العمارة كما يقولون هذه ديار عاد ، وديار ثمود ، وديار ربيعة ، وديار مضر ، وإن ذهبت عمارتها ، وبقيت عراصها ، وهو واضح في أشعار العرب قال النابغة :
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال لبيد :عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
ودليلنا هو أن ما تناوله الاسم مع البناء زال عنه حكم الحنث بذهاب البناء ، كالبيت ، فإن قيل : البيت لا يسمى بعد انهدامه بيتا ، وتسمى الدار بعد انهدامها دارا بطل بقول الله تعالى : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ النمل : 52 ] ، فسماها بعد الخراب بيوتا ؛ ولأن ما منع من الحنث بدخول عرصة البيت ، منع منه بدخول عرصة الدار ، كما لو بنى العرصة مسجدا ؛ ولأن أبا حنيفة قد وافقنا ، أنه لو حلف لا يدخل دارا ، ولم يعينها ، فدخل عرصة دار قد انهدم بناؤها لم يحنث كذلك إذا عينها .
[ ص: 357 ] وتحريره أن كل ما لا يتناوله الاسم الحقيقي ، مع عدم التعيين ، لم يتناوله مع وجود ، التعيين كالبيت .
فإن قيل : قد فرق الشرع في الأيمان بين التعيين والإبهام ؛ لأنه لو لم يحنث ، وإن سماها الله تعالى سراجا ، ولو عين فقال : لا جلست في هذا السراج إشارة إلى الشمس حنث بجلوسه فيها ، ولو حلف ، فقال : لا جلست في سراج فجلس في الشمس لم يحنث ، وإن سماها الله تعالى بساطا ، ولو عين ، فقال : لا جلست على هذا البساط مشيرا إلى الأرض ، فجلس عليها حنث ، فصارت الشمس سراجا مع التعيين ، وإن لم تكن سراجا مع الإبهام ، وصارت الأرض بساطا مع التعيين ، وإن لم تكن بساطا مع الإبهام ، كذلك وجب أن تكون العرصة دارا مع التعيين ، وإن لم تكن دارا مع الإبهام . قلنا : ليس يفترق التعيين ، والإبهام في حقائق الأسماء ، فإن اسم السراج ينطلق على الشمس مجازا في الإبهام ، والتعيين ، واسم البساط ينطلق على الأرض مجازا في الإبهام ، والتعيين ، وإنما جعل التعيين مقصودا والاسم مستعارا ، فإذا أبهم الاسم اعتبر فيه الحقيقة ، دون المجاز المستعار والتعيين في الدار توجه إلى شيئين جمعهما حقيقة الاسم وهي العرصة والبناء ، فإذا ذهب البناء زال شطر العين ، فارتفع حقيقة الاسم ولأن الإبهام إذا حلف لا دخلت دارا ، أعم من التعيين ، إذا حلف لا دخلت هذه الدار ؛ لأنه يحنث في الإبهام بدخول دار ، ولا يحنث في التعيين ، إلا بدخول تلك الدار فلما ارتفع بالهدم حكم الأعم ، كان أولى أن يرتفع به حكم الأخص . فأما الجواب عن قولهم بأن اسم الدار ينطلق عليها بعد انهدامها هو أن الاسم ينطلق عليها بعد الهدم على أحد وجهين : حلف لا جلست على بساط ، فجلس على الأرض
إما على الاستعارة والمجاز ، والأيمان تراعى فيها حقائق الأسماء دون مجازها ، وإما لأنها كانت دارا فاستصحب اسمها اتساعا ، والأسماء في الأيمان معتبرة ، بالحال دون ما سلف ، كما لو حلف لا كلمت عبدا فكلمه معتقا ، ثم يقال لأبي حنيفة هذا الاستدلال ، والتعيين يفسد بالإطلاق في الإبهام وأما استدلاله بدخوله إلى صحنها من هدم في سورها ، فسنشرح من مذهبنا فيه ما يكون انفصالا عنه ، وهو أنه ليس يخلو حال ما انهدم منها ، وبقي من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن لا يمنع من سكنى شيء منها ، فيحنث بدخوله من المستهدم والعامر .
والقسم الثاني : أن يمنع بالهدم من سكنى الباقي ، وسكنى المستهدم ، فلا يحنث بدخول ما بقي ، ولا بدخول ما انهدم .
والقسم الثالث : أن يمنع الهدم من سكنى ما استهدم ، ولا يمنع من سكنى ما بقي على عمارته ، ولم يستهدم فلا يحنث بدخول المستهدم منها ، ويحنث بدخول الباقي [ ص: 358 ] من عامرها ، ولو انهدمت بيوتها ، وبقي سورها ، فإن كان السور مانعا لعلوه حنث بدخوله ، وإن كان غير مانع لقصره فالصحيح أنه لا يحنث بدخوله ، وخرج بعض أصحابنا وجها آخر فمن أنه يحنث ، إذا كانت عليه سترة وليس هذا التحريم صحيحا ؛ لأن السطح ممتنع بسكنى أسفله ، فجاز أن يكون قصر سترته مانعا فخالف الباقي من سترة الدار . حلف لا يدخل الدار ، ورقي على سطحها