الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا وجد المضطر لحم آدمي ميت جاز أن يأكل منه ، وهو قول الجماعة ، وقال داود : لا يجوز أن يأكل منه ، وهو حرام على المضطر كتحريمه على غيره ، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : حرمة ابن آدم بعد موته كحرمته في حياته ، وكسر عظمه بعد موته ككسر عظمه في حياته .

                                                                                                                                            قال محمد بن داود : ولأن هذا مفض إلى أكل لحوم الأنبياء والصديقين ، ومن أوجب الله تعالى حفظ حرمته ، وتعظيم حقه .

                                                                                                                                            فقلبه عليه أبو العباس بن سريج وقال : المنع من أكله مفض إلى قتل الأنبياء والصديقين إذا اضطروا حفظا لحرمة ميت كافر ، وهذا أعظم ، فلم يصح بما قاله ابن داود .

                                                                                                                                            والدليل على إباحته ، قول الله تعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] فكان على عمومه ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حمزة بن عبد المطلب حين قتل بأحد : لولا صفية لتركته تأكله السباع : حتى يحشر من بطونها . فإذا جاز أن تأكله البهائم التي لا حرمة لها ، فأولى أن تحفظ به نفوس ذوي الحرمات : ولأنه لما كان أن يحيي نفسا بقتل نفس ، فإحياؤها بغير ذي نفس أولى : ولأن لحمه يبلى بغير إحياء نفس ، فكان أولى أن يبلى بإحياء نفس .

                                                                                                                                            وأما الخبر فهو بأن يكون دليلا في إباحة أكله أشبه : لأنه لما حفظ حرمته بعد الموت ، كان حفظها في الحياة أوكد ، وإذا لم يمكن حفظ الحرمتين ، كان حفظ حرمة الحي بالميت أولى من حفظ حرمة الميت بالحي .

                                                                                                                                            فإذا ثبت إباحة أكله منه ، فليس له أن يأكل إلا قدر ما يمسك رمقه قولا واحدا : ليحفظ به الحرمتين معا ، ويمنع من طبخه وشيه ، ويأكله نيئا إن قدر لأن طبخه [ ص: 176 ] محظور ، وإن لم يؤكل : وأكله محظور وإن لم يطبخ ، والضرورة تدعو إلى الأكل فأبحناه ، ولا تدعو إلى الطبخ فحظرناه .

                                                                                                                                            وخالف الميتة التي تختص بتحريم الأكل دون الطبخ ، فجاز أن يجمع بينهما عند الضرورة .

                                                                                                                                            وأما إذا وجد المضطر آدميا حيا ، فإن كان ممن لا يستباح قتله حرم على المضطر أن يأكله ما يحيي به نفسه : لأنه لا يجوز إحياء نفس بإتلاف نفس مع تكافئهما في الحرمة .

                                                                                                                                            وسواء كان المأكول مسلما أو ذميا : لأن نفس الذمي محظورة كالمسلم ، وإن كان المأكول ممن يجب قتله في ردة أو حرابة أو زنى جاز أن يأكل المضطر من لحمه لكن بعد قتله ، ولا يأكل لحمه في حياته ، لما فيه من تعذيبه ، فإن أكل من لحمه حيا كان مسيئا إن قدر على قتله ، ومعذورا إن لم يقدر على قتله لشدة الخوف على نفسه ، فإن لم يجد المضطر ما يمسك رمقه إلا بقطع عضو من جسده ففي إباحته وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي إذا كان غالب قطعه السلامة لحفظ نفسه بعضو من جسده ، كما يقطع إذا وقعت فيه الأكلة ليحفظ به نفسه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز : لأنه يجمع بقطعه بين خوفين ، فكان أسرع إلى تلفه وليس كقطع الأكلة : لأنه يأمن سرايتها بقطعه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية