الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك صدقة البصرة

في هذه السنة ، في جمادى الأولى ، انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها .

وقد ذكرنا فيما تقدم تمكن إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها ، وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر ، وازداد قوة وتمكنا بالاختلاف الواقع بين السلاطين ، وأخذ الأموال السلطانية ، وكان قد راسل صدقة ، وأظهر له أنه في طاعته وموافقته . فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعا يأخذها من إسماعيل ، فخاطب صدقة في معناه ، حتى أقرت البصرة عليه ، فأنفذ السلطان عميدا إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك ، فمنعه إسماعيل ، ولم يمكنه من عمله ، وفعل ما خرج به عن حد المجاملة ، فأمر السلطان صدقة بقصده ، وأخذ البصرة منه ، فتحرك لذلك .

فاتفق ظهور منكبرس ، وخلافه على السلطان ، وأنه على قصد واسط ، فسر إسماعيل بذلك ، وزاد انبساطه ، وأرسل صدقة حاجبا له ، وكان قبله قد خدم أباه وجده ، إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه ، فوصل إلى الشرطة ، وأخذ منها أربعمائة دينار ، فأحضره إسماعيل وحبسه ، وأخذ الدنانير منه ، فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته ، وأظهر أنه يريد قصد الرحبة ، ثم جد السير إلى البصرة ، فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منه ، ففرق [ ص: 520 ] أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل ، وغيرهما ، واعتقل وجوه العباسيين ، والعلويين ، وقاضي البصرة ، ومدرسها ، وأعيان أهلها .

ونازلهم صدقة ، فجرى قتال بين طائفة من عسكره ، وطائفة من البصريين ، قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي ، وهو ابن خال سيف الدولة صدقة ، فمما مدح به سيف الدولة ، ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم ، قول بعضهم :


تهن ، يا خير من يحمي حريم حمى ، فتحا أغثت به الدنيا مع الدين     ركبت للبصرة الغراء في نخب
غر ، كجيش علي يوم صفين     هوى أبو النجم كالنجم المنير بها
لكنه كان رجما للشياطين



وأقام صدقة محاصرا لإسماعيل بالبصرة ، فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها ، وأعلموا أنهم لا يظفرون بطائل ، فأشار عليهم بالمقام ، وقالوا : إن رحلنا كانت كسرة ، وكان رأي سيف الدولة المقام ، وقال : إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد ، واستعجزني الناس .

ثم إن إسماعيل خرج من البلد ، وقاتل صدقة ، فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد ، ودخلوه ، وقتلوا من السوادية ، الذين جمعهم إسماعيل ، خلقا كثيرا ، وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة ، فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله ، ففداه أحد غلمانه بنفسه ، فوقعت الضربة فيه فأثخنته ، فنهبت البصرة ، وغنم من معه من عرب البر ، وغيرهم ما فيها ، ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد ، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها ، وحموا المربد ، وعمت المصيبة لأهل البلد ، سوى من ذكرنا ، وامتنع إسماعيل بقلعته .

فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة ، وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا ، وقتل بها خلقا من أصحاب إسماعيل ، وحمل إلى صدقة كثيرا فأطلقهم .

فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه ، وأهله ، وأمواله ، فأجابه إلى ذلك ، وأجله سبعة أيام ، فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه ، [ ص: 521 ] وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره ، ونزل إلى سيف الدولة وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى ، ورتب عندهم شحنة ، وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة ، وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يوما .

وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب ، وسار نحو فارس ، وصار يتعنت أصحابه ، وزوجته ، وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم : أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات ! وكان قد مات في صفر من هذه السنة ، ففارقه كثير منهم ، حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداذ .

وأخذته الحمى ، وقويت عليه ، فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته ، ولم يظهر لأصحابه يوما وليلة ، فظهر لهم موته ، فنهبوا ماله وتفرقوا ، فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله ، ودفن بالقرب من إيذاج ، وكان عمره قد جاوز خمسين سنة ، وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية