الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر سبب اتصال المهدي عبيد الله بأبي عبد الله الشيعي ومسيره إلى سجلماسة

لما توفي عبد الله بن ميمون القداح ادعى ولده أنهم من ولد عقيل بن أبي طالب ، وهم مع هذا يسترون ، ويسرون أمرهم ، ويخفون أشخاصهم .

وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم ، فتوفي وخلف ولده محمدا ، وكان هو الذي يكاتبه الدعاة في البلاد ، وتوفي محمد وخلف أحمد والحسين ، فسار الحسين إلى سلمية من أرض حمص ، وله بها ودائع وأموال من ودائع جده عبد الله القداح ، ووكلاء ، وغلمان ، وبقي ببغداذ من أولاد القداح أبو الشلغلغ .

وكان الحسين يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر ، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه ، واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية ، فوصفوا له امرأة

[ ص: 588 ] رجل يهودي حداد ، مات عنها زوجها ، وهي في غاية الحسن ، فتزوجها ، ولها ولد من الحداد يماثلها في الجمال ، فأحبها وحسن موقعها معه ، وأحب ولدها ، وأدبه ، وعلمه ، فتعلم العلم ، وصارت له نفس عظيمة ، وهمة كبيرة .

فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول : إن الإمام الذي كان بسلمية ، وهو الحسين ، مات ولم يكن [ له ] ولد ، فعهد إلى ابن اليهودي الحداد ، وهو عبيد الله ، وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل ، وأين الدعاة ، وأعطاه الأموال والعلامات ، وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته ، وأنه الإمام والوصي ، وزوجه ابنة عمه أبي الشلغلغ .

وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلوي وغيره ، وجعل لنفسه نسبا ، وهو عبيد الله بن الحسن بن علي ( بن محمد بن علي ) بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب .

وبعض الناس يقولون ، وهم قليل : إن عبيد الله ( هذا من ولد القداح ، وهذه الأقوال فيها ما فيها ، فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبد الله ) الشيعي وغيره ممن قام بإظهار هذه الدعوة ، حتى يخرجوا ( هذا ) الأمر من أنفسهم ، ويسلموا إلى ولد يهودي ، وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده دينا يثاب عليه ؟

قال : فلما عهد الحسين إلى عبيد الله قال له : إنك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة ، وتلقى محنا شديدة ، فتوفي الحسين ، وقام بعده عبيد الله ، وانتشرت دعوته ، وبذل الأموال خلاف ما تقدم ، وأرسل إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه ، وأنهم ينتظرونه .

وشاع خبره عند الناس أيام المكتفي فطلب ، فهرب هو وولده أبو القاسم نزار [ ص: 589 ] الذي ولي بعده ، وتلقب بالقائم ، وهو يومئذ غلام ، وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب ، وذلك أيام زيادة الله ، فلما انتهى إلى مصر أقام مستترا بزي التجار ، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النوشري ، فأتته الكتب من الخليفة بصفته وحليته ، وأمر بالقبض عليه وعلى كل من يشبهه .

وكان بعض خاصة عيسى متشيعا ، فأخبر المهدي وأشار عليه بالانصراف ، فخرج من مصر مع أصحابه ، ومعه أموال كثيرة ، فأوسع النفقة على من صحبه ، فلما وصل الكتاب إلى النوشري فرق الرسل في طلب المهدي وخرج بنفسه فلحقه ، فلما رآه لم يشك فيه ، فقبض عليه ، ونزل ببستان ، ووكل به ، فلما حضر الطعام دعاه ليأكل ، فأعلمه أنه صائم ، فرق له ، وقال له : أعلمني بحقيقة حالك حتى أطلقك ، فخوفه بالله تعالى ، وأنكر حاله ، ولم يزل يخوفه ويتلطفه فأطلقه ، وخلى سبيله ، وأراد أن يرسل معه من يوصله إلى رفقته ، فقال : لا حاجة بي إلى ذلك ، ودعا له .

وقيل : إنه أعطاه في الباطن مالا حتى أطلقه ، فرجع ( بعض ) أصحاب النوشري عليه باللوم ، فندم على إطلاقه ، وأراد إرسال الجيش وراءه ليردوه ، وكان المهدي لما لحق أصحابه رأى ابنه أبا القاسم قد ضيع كلبا كان له يصيد به ، وهو يبكي عليه ، فعرفه عبيده أنهم تركوه في البستان الذي كانوا فيه ، فرجع المهدي بسبب الكلب ، حتى دخل البستان ومعه عبيده ، فرآهم النوشري فسأل عنهم فقيل : إنه فلان ، وقد عاد بسبب كذا وكذا ، فقال النوشري لأصحابه : قبحكم الله ! أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتى آخذه ، فلو كان يطلب ما يقال أو كان مريبا لكان يطوي المراحل ، ويخفي نفسه ، وما كان رجع في طلب كلب ، وتركه .

وجد المهدي في الهرب ، فلحقه ( لصوص بموضع يقال له الطاحونة ، فأخذوا [ ص: 590 ] بعض متاعه ، وكانت عنده كتب وملاحم لآبائه ، فأخذت ) ، فعظم أمرها عليه ، فيقال إنه لما خرج ابنه أبو القاسم في المرة الأولى إلى الديار المصرية أخذها من ذلك المكان .

وانتهى المهدي وولده إلى مدينة طرابلس ، وتفرق من صحبه من التجار ، وكان في صحبته أبو العباس أخو أبي عبد الله الشيعي ، فقدمه المهدي إلى القيروان ببعض ما معه ، وأمره أن يلحق بكتامة . فلما وصل أبو العباس إلى القيروان وجد الخبر قد سبقه إلى زيادة الله بخبر المهدي ، فسأل عنه رفقته ، فأخبروا أنه تخلف بطرابلس ، وأن صاحبه أبا العباس بالقيروان ، فأخذ أبو العباس ، وقرر فأنكر ، وقال : إنما أنا رجل تاجر صحبت رجلا في القفل ، فحبسه .

وسمع المهدي ، فسار إلى قسطيلة ، ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بأخذه ، وكان المهدي قد أهدى له واجتمع به ، فكتب العامل يخبره أنه قد سار ولم يدركه ، فلما وصل المهدي إلى قسطيلة ترك قصد أبي عبد الله الشيعي ، لأن أخاه أبا العباس كان قد أخذ ، فعلم أنه إذا قصد أخاه تحققوا الأمر وقتلوه ، فتركه وسار إلى سجلماسة ، ولما سار من قسطيلة وصل الرسل في طلبه فلم يوجد ، ووصل سجلماسة ، فأقام بها ، وفي كل ذلك عليه العيون في طريقه .

وكان صاحب سجلماسة رجلا يسمى أليسع بن مدرار ، فأهدى له المهدي ، وواصله ، فقربه أليسع ، وأحبه ، فأتاه كتاب زيادة الله يعرفه أنه الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعي ، فقبض عليه وحبسه ، فلم يزل محبوسا حتى أخرجه أبو عبد الله على ما نذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية