الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستاني

كان أحمد بن عبد الله الخجستاني من خجستان ، وهي من جبال هراة ، من أعمال باذغيس ، وكان من أصحاب محمد بن طاهر ، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور ، على ما ذكرناه ، ضم أحمد إليه ، وإلى أخيه علي بن الليث ، وكان بنو شركب ثلاثة إخوة : إبراهيم ، وأبو حفص يعمر ، وأبو طلحة منصور ، بنو مسلم ، وكان أسنهم إبراهيم ، وكان قد أبلى بين يدي يعقوب عند مواقعة الحسن بن زيد بجرجان ، فقدمه ، [ ص: 338 ] فدخل عليه يوما نيسابور ، وهو يوم في برد شديد ، فخلع عليه يعقوب وبر سمور كان على كتفه ، فحسده عليه الخجستاني فقال له : إن يعقوب يريد الغدر بك ; لأنه لا يخلع على أحد من خاصته خلعة إلا غدر به .

فغم ذلك إبراهيم ، وقال : كيف الحيلة في الخلاص ؟ قال : الحيلة أن نهرب جميعا إلى أخيك يعمر ، فإني خائف عليه أيضا . وكان يعمر قد حاصر أبا داود الناهجوزي ببلخ ، ومعه نحو من خمسة آلاف رجل ، فاتفقا على الخروج ليلتهم ، فسبقه إبراهيم إلى الموعد ، فانتظره ساعة فلم يره ، فسار نحو سرخس ، وذهب الخجستاني إلى يعقوب فأعلمه ، فأرسله في أثره ، فلحقوه بسرخس فقتلوه ، ومال يعقوب إلى الخجستاني .

فلما أراد يعقوب العود إلى سجستان استخلف على نيسابور عزيز بن السري ، وولى أخاه عمرو بن الليث هراة ، فاستخلف عمرو عليها طاهر بن حفص الباذغيسي .

وسار يعقوب إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين ، وأحب الخجستاني التخلف لما كان يحدث به نفسه ، فقال لعلي بن الليث : إن أخويك قد اقتسما خراسان ، وليس لك بها من يقوم بشغلك ، فيجب أن تردني إليها لأقوم بأمورك ; فاستأذن أخاه يعقوب في ذلك ، فأذن له ، فلما حضر أحمد يودع يعقوب أحسن له القول ، ورده وخلع عليه ، فلما ولى عنه قال يعقوب : أشهد أن قفاه قفا مستعص ، وأن هذا آخر عهدنا بطاعته . فلما فارقهم جمع نحوا من مائة رجل فورد بهم بشت نيسابور ، فحارب عاملها ، وأخرجه عنها ، وجباها ، ثم خرج إلى قومس ، فقتل ببسطام مقتلة عظيمة ، وتغلب عليها وذلك سنة إحدى وستين ومائتين .

وسار إلى نيسابور ، وبها عزيز بن السري ، فهرب عزيز ، وأخذ أحمد أثقاله ، واستولى على نيسابور يدعو إلى الطاهرية ، وذلك أول سنة اثنتين وستين ومائتين ، وكتب إلى رافع بن هرثمة يستقدمه ، فقدم عليه ، فجعله صاحب جيشه ، وكتب إلى يعمر بن شركب ، وهو يحاصر بلخ ، يستقدمه ليتفقا على تلك البلاد ، فلم يثق إليه يعمر لفعله [ ص: 339 ] بأخيه ، وسار يعمر إلى هراة ، فحارب طاهر بن حفص فقتله ، واستولى على أعمال طاهر ، فسار إليه أحمد ، فكانت بينهما مناوشات .

وكان أبو طلحة بن شركب غلاما من أحسن الغلمان ، وكان عبد الله بن بلال يميل إليه ، وهو أحد قواد يعمر ، فراسل الخجستاني ، وأعلمه أنه يعمل ضيافة ليعمر وقواده ، ويدعوهم إليه يوما ذكره . ويأمره بالنهوض إليهم فيه ، فإنه يساعده ، وشرط عليه أن يسلم إليه أبا طلحة ، فأجابه أحمد إلى ذلك ، فصنع ابن بلال طعاما ، ودعا يعمر ، وأصحابه ، وكبسهم أحمد ، وقبض على يعمر ، وسيره إلى نائبه بنيسابور فقتله ، واجتمع إلى أبي طلحة جماعة من أصحاب أخيه فقتلوا ابن بلال ، وساروا إلى نيسابور وكان بها الحسين بن طاهر أخو محمد بن طاهر قد وردها من أصبهان ، طمعا أن يخطب لهم أحمد كما كان يظهره من نفسه ، فلم يفعل ، فخطب له أبو طلحة بها ، وأقام معه ، فسار إليه الخجستاني من هراة في اثني عشر ألف عنان ، فأقام على ثلاث مراحل من نيسابور ، ووجه أخاه العباس إليها ، فخرج إليه أبو طلحة ، فقاتله ، فقتل العباس وانهزم أصحابه .

فلما بلغ خبرهم إلى أحمد عاد إلى هراة ، ولم يعلم لأخيه خبرا ، فبذل الأموال لمن يأتيه بخبره ، فلم يقدم أحد على ذلك ، وأجابه رافع بن هرثمة إليه ، فاستأمن إلى أبي طلحة فأمنه وقربه ، ووثق إليه ، وتحقق رافع خبر العباس ، فأنهاه إلى أخيه أحمد ، وأنفذه أبو طلحة إلى بيهق ، وبست ليجبي أموالها لنفسه ، وضم إليه قائدين ، فجبى رافع الأموال ، وقبض على القائدين ، وسار إلى الخجستاني ، إلى قرية من قرى خواف ، فنزلها وبها حلي بن يحيى الخارجي ، فنزل ناحية عنه .

فبلغ الخبر إلى أبي طلحة ، فركب مجدا ، فوصل إليهم ليلا ، فأوقع بحلي ، وأصحابه ، وهو يظنه رافعا ، وهرب رافع سالما ، وعلم أبو طلحة بحال حلي بعد حرب شديدة ، فكف عنه ، وأحسن إليه وإلى أصحابه .

[ ص: 340 ] ثم وجه أبو طلحة جيشا إلى جرجان ، وبها ثابت بن الحسن بن زيد ، ومعه الديلم ، وكان على جيش أبي طلحة إسحاق الشاري ، فحاربوا الديلم بجرجان ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وأجلوهم عنها ، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين .

ثم عصى إسحاق على أبي طلحة ، فسار إليه أبو طلحة ، واشتغل في طريقه باللهو والصيد ، فكبسه إسحاق وقتل أصحابه ، وانهزم أبو طلحة إلى نيسابور ، فاستضعفه أهلها ، فأخرجوه منها ، فنزل على فرسخ عنها ، وجمع جمعا وحاربهم ، ثم افتعل كتابا عن أهل نيسابور إلى إسحاق ، يستقدمونه إليهم ، ويعدونه المساعدة على أبي طلحة ، فاغتر إسحاق بذلك ، وكتب أبو طلحة عن إسحاق كتابا إلى أهل نيسابور يعدهم أنه يساعدهم على أبي طلحة ، ويأمرهم بحفظ الدروب ، وترك مقاربة البلد إلى أن يوافيهم ، فاغتروا بذلك ، وظنوه كتابه ، ففعلوا ما أمرهم .

وسار إسحاق مجدا ، فلما قارب نيسابور لقيه أبو طلحة ، فغافصه ، فطعنه أبو طلحة ، فألقاه عن فرسه في بئر هناك ، فلم يعلم له خبر ، وانهزم أصحابه ، ودخل بعضهم إلى نيسابور ، وضيق عليهم أبو طلحة ، فكاتبوا الخجستاني ، واستقدموه من هراة ، فأتاهم في يومين وليلتين ، وورد عليهم ليلا ، ففتحوا له الأبواب ، ودخلها وسار عنها أبو طلحة إلى الحسن بن زيد ، فأمده بجنود ، فعاد إلى نيسابور ، فلم يظفر بشيء ، فسار إلى بلخ ، وحصر أبا داود الناهجوزي ، واجتمع معه خلق كثير ، وذلك سنة خمس ، ( وقيل ست ) وستين ومائتين .

وسار الخجستاني إلى محاربة الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة ، فاستعان الحسن بأهل جرجان ، فأعانوه ، فحاربهم الخجستاني فهزمهم ، وأغار عليهم ، وجباهم أربعة آلاف ألف درهم ، وذلك في رمضان سنة خمس وستين [ ومائتين ] .

واتفق أن يعقوب بن الليث توفي سنة خمس وستين [ ومائتين ] أيضا ، وولي مكانه أخوه عمرو ، فعاد إلى سجستان وقصد هراة ، فعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور ، ووافاه عمرو بن الليث ، فاقتتلا ، وانهزم عمرو ورجع إلى هراة ، وأقام أحمد بنيسابور .

وكان كيكان ، وهو يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي ، وجماعة من المتطوعة [ ص: 341 ] والفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إياه ، فرأى الخجستاني أن يوقع بينهم ليشتغل بعضهم ببعض ، وأحضر منهم جماعة من الفقهاء القائلين بمذاهب أهل العراق ، فأحسن إليهم ، وقربهم ، وأكرمهم ، وأظهروا الخلاف على كيكان ، ونابذوه .

وكان كيكان يقول بمذهب أهل المدينة ، فكفي شرهم ، وسار إلى هراة فحصر بها عمرو بن الليث سنة سبع وستين [ ومائتين ] ، فلم يظفر بشيء ، فسار نحو سجستان فحصر في طريقه رمل سي فلم يظفر بشيء منها ، فاحتال حتى استمال رجلا قطانا كانت داره إلى جانب السور ، ووعده أن ينقب من العسكر إلى داره ، ويخرج أصحابه إلى البلد ، فاستأمن رجلان من البلد من أصحاب الخجستاني ، وذكرا الخبر لصاحبه ، فأخذ القطان وأخربت داره ، وبطل ما كان الخجستاني عزم عليه .

وكان خليفة الخجستاني بنيسابور قد أساء السيرة ، وقوى العيارين وأهل الفساد ، فاجتمع الناس إلى كيكان ، فثار على نائبه ، وأعانهم عمرو بن الليث بجنده ، فقبضوا على خليفة الخجستاني ، وأقام أصحاب عمرو بنيسابور ، فبلغ الخبر إلى أحمد ، فوافى نيسابور ، فخرج عنها كيكان ( وغيره ، فردهم أصحاب أحمد الخجستاني ، فقتل منهم جماعة ، وغيب كيكان ) ، فلم يظهر إلا بعد مدة ميتا ، وقد بنى عليه حائطا فمات فيه .

وأقام أحمد بنيسابور تمام سنة سبع وستين ومائتين . ثم إن عمرا كاتب أبا طلحة ، وهو يحاصر بلخ ، يستقدمه إلى هراة ، فأتاه ، فأكرمه ، وأعطاه مالا عظيما ، ووعده وتركه بخراسان ، وعاد إلى سجستان ; فسار أحمد إلى سرخس ، وبها عامل عمرو ، فأتاه أبو طلحة ، فقاتله ، فانهزم أبو طلحة ، ومر على وجهه ، [ ص: 342 ] وسار أحمد خلفه ، فلحقه بخلم فحاربه ، فهزمه أيضا ، وسار نحو سجستان ، وأقام أحمد بطخارستان .

( وكان ناسرار ) عباس القطان قد أتى طلحة ، فسار نحو نيسابور ، فأعانه أهلها ، فأخذوا والدة الخجستاني ، وما كان معها ; ( وأقام بنيسابور ، ولحق به أبو طلحة ، فمنعه أهل نيسابور من دخولها ) .

واتصل الخبر بالخجستاني ، وهو بطايكان من طخارستان ، فسار مجدا نحو نيسابور .

ولما أيس الطاهرية من الخجستاني ، وكان أحمد بن محمد بن طاهر بخوارزم واليا عليها ، أنفذ أبا العباس النوفلي في خمسة آلاف رجل ليخرج أحمد من نيسابور ، فبلغ خبره أحمد ، فأرسل إليه ينهاه عن سفك الدماء ، فأخذ النوفلي الرسل ، فأمر بضربهم ، وحلق لحاهم ، وأراد قتلهم ، فبينما هم يطلبون الجلادين ، والحجامين ليحلقوا لحاهم ، أتاهم الخبر بقرب جيش أحمد منهم ، فاشتغلوا ، وتركوا الرسل ، فهربوا إلى أحمد ، وأعلموه الخبر ، فعبأ أصحابه ، وحملوا على النوفلي حملة رجل واحد ، فأكثروا فيهم القتل ، وقبضوا على النوفلي ، وأحضروه عنده ، فقال له : إن الرسل لتختلف إلى بلاد الكفار ، فلا تتعرض لهم ، أفلا استحييت أن تأمر في رسلي بما أمرت ؟ فقال النوفلي : أخطأت ; فقال : لكني سأصيب في أمرك ! ثم أمر به فقتل .

وبلغه أن إبراهيم بن محمد بن طلحة بمرو قد جبى أهلها في سنتين خمسة عشر خراجا ، فسار إليه في أبيورد في يوم وليلة ، فأخذه من على فراشه ، وأقام بمرو ، فجبى خراجها ، ثم ولاها موسى البلخي ، ثم وافاها الحسين بن طاهر ، فأحسن فيهم السيرة ، ووصل إليه نحو عشرين ألف ألف درهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية