الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر استيلاء الموفق على مدينة الخبيث الشرقية

لما علم الموفق أن أصحابه قد تمرنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوها ، صمم العزم على العبور إلى محاربة الخبيث من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب ، فجلس مجلسا عاما ، وأحضر قواد المستأمنة ، وفرسانهم ، فوقفوا بحيث يسمعون كلامه ، ثم كلمهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة ، والجهل ، وانتهاك المحارم ، ومعصية الله - عز وجل - وأن ذلك قد أحل له دماءهم ، وأنه غفر لهم زلتهم ، ووصلهم ، وأن ذلك يوجب عليهم حقه ، وطاعته ، وأنهم لن يرضوا ربهم ، وسلطانهم بأكثر من الجد في مجاهدة الخبيث ، وأنهم ليعرفون مسالك العسكر ، ومضايق مدينته ، ومعاقلها التي أعدها ، فهم أولى أن يجتهدوا في الولوج على الخبيث ، والوغول إلى حصونه ، حتى يمكنهم الله منه ، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان ، والمزيد ، ومن قصر منهم فقد أسقط منزلته وحاله .

فارتفعت أصواتهم بالدعاء له ، والاعتراف بإحسانه ، وبما هم عليه من المناصحة ، والطاعة ، وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقربهم منه ، وسألوه أن يفردهم بناحية ليظهر من نكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم ، وطاعتهم ، فأجابهم إلى ذلك ، وأثنى عليهم ، ووعدهم ، وكتب في جمع السفن ، والمعابر من دجلة ، والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره ، إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته ، وأحصى ما في الشذا ، والسميريات ، وأنواع السفن ، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة ، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة ، ويركبها الناس في حوائجهم ، وسوى ما كان لكل قائد من السميريات ، والحربيات ، والزواريق .

فلما تكاملت السفن تقدم إلى ابنه أبي العباس ، وقواده بقصد مدينة الخبيث الشرقية [ ص: 414 ] من جهاتها ، ( فسير ابنه أبا العباس إلى ) ناحية دار المهلبي أسفل العسكر ، وكان قد شحنها بالرجال ، والمقاتلين ، وأمر جميع أصحابه بقصد دار الخبيث ، وإحراقها ، فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبي ، وسار هو في الشذا ، وهي مائة وخمسون قطعة ، فيها أنجاد غلمانه ، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف ، وأمرهم أن يسيروا على جانبي النهر معه إذا سار ، وأن يقفوا معه إذا وقف ، ليتصرفوا بأمره .

وبكر الموفق لقتال الفاسقين يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين ، وكانوا قد تقدموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم ، وتقدم كل طائفة إلى الجهة التي أمرهم بها ، فلقيهم الزنج ، واشتدت الحرب ، وكثر القتل والجراح في الفريقين ، وحامى الفسقة عن الذي اقتصروا عليه من مدينتهم ، واستماتوا ، وصبروا ، فنصر الله أصحاب الموفق ، فانهزم الزنج ، وقتل منهم خلق كثير ، وأسر من أنجادهم وشجعانهم جمع كثير ، فأمر الموفق فضربت أعناق الأسرى في المعركة ، وقصد بجمعه الدار التي يسكنها الخبيث ، وكان قد لجأ إليها ، وجمع أبطال أصحابه للمدافعة عنها ، فلم يغنوا عنها شيئا ، وانهزموا عنها وأسلموها ، ودخلها أصحاب الموفق وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله ، وولده ، وأثاثه ، فنهبوا ذلك أجمع ، وأخذوا حرمه ، وأولاده ، وكانوا عشرين ما بين صبية ، وصبي ، وسار الخبيث هاربا نحو دار المهلبي لا يلوي على أهل ، ولا مال ، وأحرقت داره ، وأتي الموفق بأهل الخبيث وأولاده ، فسيرهم إلى بغداذ .

وكان أصحاب أبي العباس قد قصدوا دار المهلبي ، وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين ، فغلبوهم عليها ، واشتغلوا بنهبها ، وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين ، وأولادهم ، وجعل من ظفر منهم بشيء حمله إلى سفينته ، فعلوا في الدار ونواحيها ، فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا فيهم مقتلة يسيرة .

وكان جماعة من غلمان الموفق الذين قصدوا دار الخبيث تشاغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا ، فأطمع ذلك الزنج فيهم ، فأكبوا عليهم فكشفوهم ، واتبعوا آثارهم ، وثبت جماعة من أبطال الموفق ، فردوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم ، ودامت الحرب إلى العصر ، فأمر الموفق غلمانه بصدق الحملة عليهم ، ففعلوا ، فانهزم الخبيث وأصحابه ، وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا ، فرأى الموفق عند ذلك أن [ ص: 415 ] يصرف أصحابه إلى إحسانهم ، فردهم وقد غنموا ، واستنقذوا جمعا من النساء المأسورات كن يخرجن ذلك اليوم أرسالا فيحملن إلى الموفقية .

وكان أبو العباس قد أرسل في ذلك اليوم قائدا ، فأحرق ثم بيادر كانت ذخيرة للخبيث ، وكان ذلك مما أضعف به الخبيث وأصحابه .

ثم وصل إلى الموفق كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون في القدوم عليه ، فأمره بذلك ، وأخر القتال إلى أن يحضر .

التالي السابق


الخدمات العلمية