الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر القبض على مؤنس وبليق

في هذه السنة ، أول شعبان ، قبض القاهر بالله على بليق وابنه ، ومؤنس المظفر .

وسبب ذلك أنه لما ذكر ابن مقلة لمؤنس وبليق ما هو عليه القاهر من التدبير في استئصالهم خافوه ، وحملهم الخوف على الجد في خلعه ، واتفق رأيهم على استخلاف أبي أحمد بن المكتفي وعقدوا له الأمر سرا ، وحلف له بليق وابنه علي ، والوزير أبو علي بن مقلة ، والحسن بن هارون ، وبايعوه ، ثم كشفوا الأمر لمؤنس فقال لهم : لست أشك في شر القاهر وخبثه ، ولقد كنت كارها لخلافته ، وأشرت بابن المقتدر ، فخالفتم وقد بالغتم الآن في الاستهانة به ، وما صبر على الهوان إلا من خبث طويته ليدبر [ ص: 780 ] عليكم ، فلا تعجلوا ( على أمر حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ، ثم فتشوا لتعرفوا من واطأه من القواد ومن الساجية والحجرية ، ثم اعملوا على ذلك ) ، فقال علي بن بليق ، ( والحسن بن هارون ) : ما يحتاج إلى هذا التطويل ، فإن الحجبة لنا ، والدار في أيدينا وما يحتاج أن نستعين في القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر في قفص .

وعملوا على معاجلته ، فاتفق أن سقط بليق من الدابة ، فاعتل ولزم منزله ، واتفق ابنه علي وأبو علي بن مقلة وزينا لمؤنس خلع القاهر ، وهونا عليه الأمر ، فأذن لهما ، فاتفق رأيهما على أن يظهروا أن أبا طاهر القرمطي قد ورد الكوفة في خلق كثير ، وأن علي بن بليق سائر إليه في الجيش ليمنعه عن بغداذ ، فإذا دخل على القاهر ليودعه ويأخذ أمره فيما يفعل قبض عليه .

( فلما اتفقا على ذلك جلس ابن مقلة ، وعنده الناس ، فقال لأبي بكر بن قرابة ) : أعلمت أن القرمطي قد دخل الكوفة في ستة آلاف مقاتل بالسلاح التام ؟ قال : لا قال ابن مقلة : قد وصلنا كتب النواب بها بذلك ، فقال ابن قرابة : هذا كذب ومحال ، فإن في جوارنا إنسانا من الكوفة ، وقد أتاه اليوم كتاب على جناح طائر تاريخه اليوم يخبر فيه بسلامته ، فقال له ابن مقلة : سبحان الله ، أنتم أعرف منا بالأخبار ؟ فسكت ابن قرابة .

وكتب ابن مقلة إلى الخليفة يعرفه ذلك ، ويقول له : إني قد جهزت ( جيشا مع ) علي بن بليق ليسير يومنا هذا ، والعصر يحضر إلى الخدمة ليأمره مولانا بما يراه ، فكتب القاهر في جوابه يشكره ، ويأذن له في حضور ابن بليق ، فجاءت رقعة القاهر وابن مقلة نائم ، فتركوها ولم يوصلوها إليه ، فلما استيقظ عاد وكتب رقعة أخرى في المعنى ، فأنكر القاهر الحال ، حيث قد كتب جوابه ، وخاف أن يكون هناك مكر .

[ ص: 781 ] وهو في هذا إذ وصلت رقعة طريف السبكري يذكر أن عنده نصيحة وأنه قد حضر في زي امرأة لينهيها إليه ، فاجتمع به القاهر ، فذكر له جميع ما قد زعموا عليه ، وما فعلوه من التدبير ليقبض ابن بليق عليه إذا اجتمع به وأنهم قد بايعوا أبا أحمد بن المكتفي ، فلما سمع القاهر ذلك أخذ حذره وأنفذ إلى الساجية فأحضرهم متفرقين ، وكمنهم في الدهاليز ، ( والممرات ) ، والرواقات ، وحضر علي بن بليق بعد العصر ، وفي رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف ، في طيارة ، وأمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة ، وصعد من الطيارة ، وطلب الإذن ، فلم يأذن له القاهر ، فغضب وأساء أدبه ، وقال : لا بد من لقائه شاء أو أبى .

وكان القاهر قد أحضر الساجية ، كما ذكرنا ، وهم عنده في الدار فأمرهم القاهر برده ، فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه وشهروا سلاحهم وتقدموا إليه جميعهم ، ففر أصحابه عنه ، وألقى نفسه في الطيارة وعبر إلى الجانب الغربي واختفى من ساعته ، فبلغ ابن مقلة الخبر ، فاستتر واستتر الحسن بن هارون أيضا .

فلما سمع طريف الخبر ركب في أصحابه ، وعليهم السلاح ، وحضروا دار الخليفة ووقف القاهر ، فعظم الأمر حينئذ على ابن بليق وجماعتهم وأنكر بليق ما جرى على ابنه ، وسب الساجية ، وقال : لا بد من المضي إلى دار الخليفة ، فإن كان الساجية فعلوا هذا بغير تقدم قابلتهم بما يستحقونه ، وإن كان بتقدم سألته عن سبب ذلك .

فحضر دار الخليفة ومعه جميع القواد الذين بدار مؤنس ، فلم يوصله القاهر إليه ، وأمر بالقبض عليه وحبسه ، وأمر بالقبض على أحمد بن زيرك صاحب الشرطة [ ص: 782 ] وحصل الجيش كلهم في الدار ، فأنفذ القاهر وطيب نفوسهم ، ووعدهم الزيادة ، وأنه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثم يطلقهم ويحسن إليهم ، فعادوا .

وراسل القاهر مؤنسا يسأله الحضور عنده ليعرض عليه ما رفع عليهم ليفعل ما يراه ، وقال : إنه عندي بمنزلة الوالد ، وما أحب أن أعمل شيئا إلا عن رأيه ، فاعتذر مؤنس عن الحركة ، ( ونهاه أصحابه عن الحضور ) عنده .

فلما كان الغد أحضر القاهر طريفا السبكري وناوله خاتمه ، وقال له : قد فوضت إلى ولدي عبد الصمد ما كان المقتدر فوضه إلى ابنه محمد ، وقلدتك خلافته ، ورئاسة الجيش ، وإمارة الأمراء ، وبيوت الأموال ، كما كان ذلك إلى مؤنس ، ويجب أن تمضي إليه وتحمله إلى الدار ، فإنه ما دام في منزله يجتمع إليه من يريد الشر ولا يأمن أن يولد شغل ، فيكون هاهنا مرفها ، ومعه من أصحابه من يخدمه على عادته .

فمضى إلى دار مؤنس ، وعنده أصحابه في السلاح ، وهو قد استولى عليه الكبر والضعف ، فسأله أصحاب مؤنس عن الحال ، فذكر سوء صنيع بليق وابنه ، فكلهم سبهما ، وعرفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود ، فسكتوا ، ودخل إلى مؤنس وأشار عليه بالحضور عند القاهر ، وحمله عليه ، وقال له : إن تأخرت طمع ، ولو رآك نائما ما تجاسر أن يوقظك ، وكان موافقا على مؤنس وأصحابه لما نذكره ، فسار مؤنس إليه فلما دخل الدار قبض القاهر عليه وحبسه ولم يره .

قال طريف : لما أعلمت القاهر بمجيء مؤنس ارتعد ، وتغيرت أحواله ، وزحف من صدر فراشه ، فخفته أن أكلمه في معناه ، وعلمت أنني قد أخطأت ، وندمت وتيقنت أنني [ ص: 783 ] لاحق بالقوم عن قريب ، وذكرت قول مؤنس ( فيه إنه يعرفه بالهوج ، والشر والإقدام ، والجهل ) وكان أمر الله قدرا مقدورا وكانت وزارة ابن مقلة هذه تسعة أشهر وثلاثة أيام .

واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله ، مستهل شعبان ، وخلع عليه ، وأنفذ القاهر وختم على دور مؤنس ، وبليق وابنه علي ، وابن مقلة ، وأحمد بن زيرك ، والحسن بن هارون ، ونقل دوابهم ، ووكل بحرمهم وأنفذ فاستقدم عيسى المتطبب من الموصل ، وأمر بنقل ما في دار ابن مقلة وإحراقها ، فنهبت وأحرقت ، ونهبت دور المتعلقين بهم ، وظهر محمد بن ياقوت ، وقام بالحجبة ثم رأى كراهية طريف السبكري والساجية له ، فاختفى وهرب إلى أبيه بفارس ، فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب ، وقلده كور الأهواز .

وكان السبب في ميل طريف السبكري ، والساجية ، والحجرية إلى القاهر ، ومواطأتهم على مؤنس وبليق وابنه ما نذكره ، وهو أن طريفا كان قد أخذ قواد مؤنس وأعلاهم منزلة ، وكان بليق وابنه ممن يقبل يده ويخدمه فلما استخلف القاهر بالله تقدم بليق وابنه ، وحكما في الدولة كما ذكرناه وأهمل ابن بليق جانب طريف ، وقصده وعطله من أكثر أعماله ، فلما طالت عطلته استحيا منه بليق ، وخاف جانبه ، فعزم على استعماله على ديار مصر ليقضي حقه ، ويبعده ، ومعه أعيان رفقائه ليأمنهم ، وقال ذلك للوزير أبي علي بن مقلة ، فرآه صوابا ، فاعتذر بليق إلى طريف لسبب عطلته ، وأعلمه بحديث مصر فشكره ، وشكر الوزير أيضا ، فمنع علي ابن بليق من إتمامه ، وتولى هو العمل ، وأرسل إليه من يخلفه فيه ، فصار طريف عدوا يتربص بهم الدوائر .

وأما الساجية فإنهم كانوا عدة مؤنس وعضده ، وساروا معه إلى الموصل ، وعادوا معه إلى قتال المقتدر ، ووعدهم مؤنس المظفر بالزيادة فلما قتل المقتدر لم يروا لميعاده وفاء ، ثناه عنه ابن بليق ، واطرحهم ابن بليق أيضا ، وأعرض عنهم .

[ ص: 784 ] وكان من جملتهم خادم أسود اسمه صندل ، وكان من أعيانهم ، وكان خادم اسمه مؤتمن ، فباعه ، فاتصل بالقاهر قبل خلافته ، فلما استخلف قدمه وجعله لرسائله ، فلما بلي القاهر بابن بليق وسوء معاملته كان كالغريق يتمسك بكل شيء ، وكان خبيرا بالدهاء والمكر ، فأمر مؤتمنا أن يقصد صندلا الساجي الذي باعه ، ويشكو من القاهر ، فإن رأى منه ردا لما يقوله أعلمه بحال القاهر وما يقاسي من ابن بليق وابنه ، وإن رأى منه خلاف ذلك سكت فجاء إليه وفعل ما أمره .

فلما شكا قال له صندل : وفي أي شيء هو الخليفة حتى يعطيك ، ويوسع عليك ؟ إن فرج الله عنه من هذا المفسد احتجت أنا وغيري إليك ، ولله علي صوم وصدقة إن ملك الخليفة أمره ، واستراح ، وأراحنا من هذا الملعون ، فأعاد المؤتمن الحديث على القاهر ، فأرسل على يده هدية جميلة من طيب وغيره إلى زوجة صندل ، وقال له : تحمله إليها ، وزوجها غائب عنها ، وتقول لها إن الخليفة قسم فينا شيئا ، وهذا من نصيبي أهديته إليكم ، ففعل هذا ، فقبلته ثم عاد إليها من الغد وقال : أي شيء قال صندل لما رأى انبساطي عليكم ؟ فقالت : اجتمع هو وفلان ، وذكرت ستة نفر من أعيانهم ، ورأوا ما أهديت إلينا فاستعملوا منه ودعوا للخليفة .

فبينما هو عندها إذ حضر زوجها فشكر مؤتمنا ، وسأله عن أحوال الخليفة ، فأثنى عليه ، ووصفه بالكرم ، وحسن الأخلاق ، وصلابته في الدين ، فقال صندل إن ابن بليق نسبه إلى قلة الدين ، ويرميه بأشياء قبيحة ، فحلف مؤتمن على بطلان ذلك ، وأن جميعه كذب .

ثم أمر القاهر مؤتمنا أن يقصد زوجة صندل ، ويستدعيها إلى قهرمانة القاهر فتحضر متنكرة على أنها قابلة يأنس بها من عند القاهر ، لما كانوا بدار ابن طاهر وقد حضرت لحاجة بعض أهل الدار إليها ، ففعلت ذلك ، ودخلت الدار وباتت عندهم ، فحملها القاهر رسالة إلى زوجها ورفقائه ، وكتب إليهم رقعة بخطه يعدهم بالزيادة في الأقطاع والجاري ، وأعطاها لنفسها مالا ، فعادت إلى زوجها وأخبرته بما كان جميعه ، فوصل الخبر إلى ابن بليق أن امرأة من دار ابن طاهر دخلت إلى دار الخليفة ، فلهذا منع ابن بليق من دخول امرأة حتى تبصر وتعرف .

[ ص: 785 ] وكان للساجية قائد كبير اسمه سيما ، وكلهم يرجعون إلى قوله ، فاتفق صندل ومن معه على إعلام سيما بذلك إذ لا بد لهم منه ، وأعلموه برسالة القاهر إليهم ، فقال : هذا صواب ، والعاقبة فيه جميلة ، ولكن لا بد من أن يدخلوا في الأمر بعض هؤلاء القوم ، يعني أصحاب بليق ومؤنس ، وليكن من أكابرهم ، فالتقوا على طريف السبكري ، وقالوا : هو أيضا متسخط فحضروا عنده وشكوا إليه ما هم فيه ، وقالوا : لو كان الأستاذ ، يعنون مؤنسا ، يملك أمره لبلغنا مرادنا ، ولكن قد عجز وضعف ، واستبد عليه ابن بليق بالأمور ، فوجدوا عنده من كراهتهم أضعاف ما أرادوا ، فأعلموه حينئذ حالهم فأجابهم إلى موافقتهم ، واستحلفهم أنه لا يلحق مؤنسا وبليقا وابنه مكروه وأذى في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم ، وإنما يلزم بليق وابنه بيوتهم ويكون مؤنسا على مرتبته لا يتغير ، فحلفوا على ذلك ، وحلف لهم على الموافقة وطلب خط القاهر بما طلب ، فأرسلوا إلى القاهر بما كان فكتب إليهم بما أرادوا وزاد بأن قال : إنه يصلي بالناس ، ويخطب أيام الجمع ، ويحج بهم ( ويغزو معهم ) ، ويقعد للناس ويكشف مظالمهم إلى غير ذلك من حسن السيرة .

ثم إن طريفا اجتمع بجماعة من رؤساء الحجرية ، وكان ابن بليق قد أبعدهم عن الدار وأقام بها أصحابه ، فهم حنقون عليه ، فلما أعلمهم طريف الأمر أجابوه إليه ، فظهر شيء من هذا الحديث إلى ابن مقلة ، وابن بليق ، ولم يعلموا تفصيله ، فاتفقوا على أن يقبضوا على جماعة من قواد الساجية والحجرية ، فلم يقدموا عليهم خوف الفتنة .

وكان القاهر قد أظهر مرضا من دماميل وغيرها ، فاحتجب عن الناس خوفا منهم ، فلم يكن يراه أحد إلا خواص خدمه من الأوقات النادرة فتعذر على ابن مقلة وابن بليق الاجتماع به ليبلغوا منه ما يريدون ، فوضعا ما ذكرناه من أخبار القرامطة ليظهر لهم ويفعلوا به ما أرادوا [ ص: 786 ] ( ولما قبض القاهر على مؤنس وجماعته ) استعمل القاهر على الحجبة سلامة الطولوني وعلى الشرطة أبا العباس أحمد بن خاقان ، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله ، وأمر بالنداء على المستترين ، وإباحة مال من أخفاهم وهدم داره ، وجد في طلب أحمد بن المكتفي ، فظفر به ، فبنى عليه حائطا وهو حي فمات ، وظفر بعلي بن بليق فقتله .

التالي السابق


الخدمات العلمية