ذكر البصرة مدينة واسط وعوده عنها قصد صاحب
في هذه السنة ، في العشرين من شوال ، قصد الأمير إسماعيل ، صاحب البصرة ، مدينة واسط للاستيلاء عليها .
ونحن نبتدئ بذكر إسماعيل ، وتنقل الأحوال به إلى أن ملك البصرة ، وهو إسماعيل بن سلانجق ، وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري ، ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم ، وعجز الولاة عنهم ، فسلك معهم طريقا أصلحهم بها ، وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها ، وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلا للدواب ، ثم عزل عنها .
ثم إن أقطع السلطان بركيارق البصرة للأمير قماج ، فأرسل إليها هذا الأمير إسماعيل نائبا عنه فلما فارق قماج بركيارق ، وانتقل إلى خراسان ، حدثته نفسه بالتغلب على البصرة ، والاستبداد ، فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه ، ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي ، صاحب الجزيرة الدبيسية ، فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل ، ووصلوا إلى مطارا .
فبينما معقل يقاتل قريبا من القلعة التي بناها ينال بمطارا ، وجددها إسماعيل وأحكمها ، أتاه سهم غرب فقتله ، فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة ، وأخذ إسماعيل سفنه ، وذلك سنة إحدى وتسعين [ وأربعمائة ] ، فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين ، فأمده بأبي الحسن الهروي ، وعباس بن أبي الجبر ، فلقياه ، فكسرهما وأسرهما ، وأطلق عباسا على مال أرسله أبوه ، واصطلحا .
وأما الهروي فبقي في حبسه مدة ، ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار ، فلم يصح له منها شيء .
وقوي حال إسماعيل ، فبنى قلعة بالأبلة ، وقلعة بالشاطئ مقابل مطارا ، وصار [ ص: 470 ] مخوف الجانب وأمن البصريون به ، وأسقط شيئا من المكوس ، واتسعت إمارته باشتغال السلاطين ، وملك المشان ، واستضافها إلى ما بيده .
فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه ، فقوي طمعه في واسط ، فأصعد في السفن إلى نهرابان ، وراسلهم في التسليم ، فامتنعوا من ذلك ، وقالوا : راسلناك ، وقد رأينا غير ذلك الرأي . فأصعد إلى الجانب الشرقي ، فخيم تحت النخيل ، وسفنه بين يديه ، وخيم جند واسط حذاءه ، وراسلهم ، ووعدهم ، وهم لا يجيبونه .
واتفقت العامة مع الجند ، وشتموه أقبح شتم ، فلما أيس منهم عاد إلى البصرة ، وساروا بإزائه من الجانب الآخر ، فوصل إلى العمر ، وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد ، وهو يظن أن البلد خال ، وأن الناس قد خرجوا منه لما رأى كثرة من بإزائه ، فيوقع الحريق في البلد ، فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم ، فكان ظنه خائبا لأن العامة كانوا على دجلة ، وأولهم في البلد ، وآخرهم مع الأتراك بإزائه .
فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم ومعهم العامة ، فقتلوا منهم ثلاثين رجلا ، وأسروا خلقا كثيرا ، وألقى الباقون أنفسهم في الماء ، فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها ، وصار أعيان أصحابه مأسورين ، وعاد إلى البصرة ، وكان عوده من سعادته ، فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود ( البصرة ذلك الوقت ) ، وله أعمال واسعة ، منها : نصف عمان ، وجنابة ، وسيراف ، وجزيرة بني نفيس .
وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك ، وآخر اسمه زنجويه ، والثالث بأبي الفضل الأبلي ، فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى أبي سعد هذا وغيره ، فعمل نيفا وعشرين قطعة ، فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة ، فأتوا إلى دجلة البصرة وذلك في السنة الخالية ، فأقاموا بها محاربين ، وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل ، [ ص: 471 ] وقتلوا صاحب قلعة الأبلة ، وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكرا ليساعدوهم على أخذ البصرة ، فتمادى الجواب ، وركن الطائفتان إلى الصلح ، على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه ، ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة .
فلما رجعوا لم يفعل شيئا من ذلك ، وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعد ، فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة ، ووصل إلى فوهة نهر الأبلة .
وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب ، ووقع القتال بينهم ، وكان البحريون في نحو عشرة آلاف ، وإسماعيل في سبعمائة ، وأصعد البحريون في دجلة ، فأحرقوا عدة مواضع ، وتفرق عسكر إسماعيل ، فبعضه بالأبلة ، وبعضه بنهر الدير ، وبعضه في مواضع أخر .
فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة ، على ما يتعلق بديوانه من البلاد ، أن يسعى في الصلح ، فأرسل إليه في ذلك ، فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى ، وتكررت الرسائل بينهم ، فأجاب إلى الصلح ، فاصطلحا ، واجتمعا ، وعاد أبو سعد إلى بلاده ، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة .