ذكر القرامطة أمر
فيها أنفذ زكرويه بن مهرويه ، بعد قتل صاحب الشامة ، رجلا كان يعلم الصبيان بالرافوفة من الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد ، ويكنى أبا غانم ، فسمي نصرا ، وقيل كان المنفذ ابن زكرويه ، فدار على أحياء العرب من كلب وغيرهم يدعوهم إلى رأيه ، فلم يقبله منهم أحد ، إلا رجلا من بني زياد يسمى مقدام بن الكيال ، واستقوى بطوائف من الأصبغيين المنتمين إلى الفواطم ، وغيرهم من العليصيين ، وصعاليك من سائر بطون كلب ، وقصد ناحية الشام ، والعامل بدمشق والأردن أحمد بن كيغلغ ، وهو بمصر يحارب الخلنجي ، فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد ، وسار إلى بصرى
[ ص: 550 ] وأذرعات والبثنية ، فحارب أهلها ، ثم أمنهم ، فلما استسلموا إليه قتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم .
ثم قصد دمشق ، فخرج إليهم نائب ابن كيغلغ ، وهو صالح بن الفضل ، فهزمه القرامطة ، وأثخنوا فيهم ، ثم [ أمنوهم ] وغدروهم بالأمان ، وقتلوا صالحا ، وفضوا عسكره ، وساروا إلى دمشق ، فمنعهم أهلها ، فقصدوا طبرية ، وانضاف إليه جماعة من جند دمشق افتتنوا به ، فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي ، وهو خليفة أحمد بن كيغلغ بالأردن ، فهزموه ، وبذلوا له الأمان ، وغدروا به ، وقتلوه ، ونهبوا طبرية ، وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وسبوا النساء .
فأنفذ الخليفة الحسين بن حمدان وجماعة من القواد في طلبهم ، فوردوا دمشق ، فلما علم بهم القرامطة رجعوا نحو السماوة ، وتبعهم الحسين في السماوة وهم ينتقلون في المياه ويغورونها ، حتى لجئوا إلى ماءين يعرف أحدهما بالدمعانة ، والآخر بالحبالة .
وانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء ، وعاد إلى الرحبة ، وأسرى القرامطة مع نصر إلى هيت وأهلها غافلون ، فنهبوا ربضها ، وامتنع أهل المدينة بسورهم ، ونهبوا السفن ، وقتلوا من أهل المدينة مائتي نفس ، ونهبوا الأموال والمتاع ، وأوقروا ثلاثة آلاف راحلة من الحنطة .
وبلغ الخبر إلى المكتفي فسير محمد بن إسحاق بن كنداج ، فلم يقيموا لمحمد ، ورجعوا إلى الماءين فنهض محمد خلفهم ، فوجدهم قد غوروا المياه ، فأنفذ إليه من بغداذ الأزواد والدواب ، وكتب إلى ابن حمدان بالمسير إليهم من جهة الرحبة ليجتمع هو ومحمد على الإيقاع بهم ، ففعل ذلك .
فلما أحس الكلبيون بإقبال الجيش إليهم وثبوا بنصر فقتلوه ، قتله رجل منهم يقال له الذئب بن القائم ، وسار برأسه إلى المكتفي متقربا بذلك ، مستأمنا ، فأجيب إلى ذلك ، وأجيز بجائزة سنية ، وأمر بالكف عن قومه .
[ ص: 551 ] واقتتلت القرامطة بعد نصر حتى صارت بينهم الدماء ، وسارت فرقة كرهت أمورهم إلى بني أسد بنواحي عين التمر ، واعتذروا إلى الخليفة ، فقبل عذرهم ، وبقي على الماءين بقيتهم ممن له بصيرة في دينه ، فكتب الخليفة إلى ابن حمدان يأمره بمعاودتهم ، واجتثاث أصلهم ، فأرسل إليهم زكرويه بن مهرويه داعية له يسمى القاسم بن أحمد ، ويعرف بأبي محمد ، وأعلمهم أن فعل الذئب قد نفره منهم ، وأنهم قد ارتدوا عن الدين ، وأن وقت ظهورهم قد حضر ، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ، وأن يوم موعدهم الذي ذكره الله في شأن موسى صلى الله عليه وسلم وعدوه فرعون إذ قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ، ويأمرهم أن يفوا أمرهم ، وأن يسيروا حتى يصبحوا الكوفة يوم النحر سنة ثلاث وتسعين ومائتين ، فإنهم لا يمنعون منها ، وأنه يظهر لهم ، وينجز لهم وعده الذي يعدهم إياه ، وأن يحملوا إليه . القاسم بن أحمد
فامتثلوا رأيه ، ووافوا باب الكوفة وقد انصرف الناس عن مصلاهم ، وعاملهم إسحاق بن عمران ، ووصلوها في ثمانمائة فارس عليهم الدروع ، والجواشن ، والآلات الحسنة ، وقد ضربوا على قبة ، وقالوا هذا أثر رسول الله ، ونادوا : يا لثارات القاسم بن أحمد الحسين ، يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب ببغداذ ، وشعارهم : يا أحمد ، يا محمد ، يعنون ابني زكرويه المقتولين ، فأظهروا الأعلام البيض ، وأرادوا استمالة رعاع الناس بالكوفة بذلك ، فلم يمل إليهم أحد ، فأوقع القرامطة بمن لحقوه من أهل الكوفة ، وقتلوا نحوا من عشرين نفسا .
وبادر الناس الكوفة ، وأخذوا السلاح ، ونهض بهم إسحاق ، ودخل مدينة الكوفة من القرامطة مائة فارس ، فقتل منهم عشرون نفسا ، وأخرجوا عنها ، وظهر إسحاق ، وحاربهم إلى العصر ، ثم انصرفوا نحو القادسية ، وكان فيمن يقاتلهم مع إسحاق جماعة من الطالبية .
وكتب إسحاق إلى الخليفة يستمده ، فأمده بجماعة من قواده ، منهم : وصيف بن صوارتكين التركي ، والفضل بن موسى بن بغا ، وبشر الخادم الأفشيني ، ورائق الخزري ، مولى أمير المؤمنين ، وغيرهم من الغلمان الحجرية ، فساروا منتصف
[ ص: 552 ] ذي الحجة حتى قاربوا القادسية فنزلوا بالصوان ، فلقيهم زكرويه .
وأما القرامطة فإنهم أنفذوا واستخرجوا زكرويه من جب في الأرض كان منقطعا فيه سنين كثيرة ، بقرية الدرية ، وكان على الجب باب حديد محكم العمل ، وكان زكرويه إذا خاف الطلب جعل تنورا هناك على باب الجب ، وقامت امرأة تسجره ، فلا يفطن إليه ، وكان ربما أخفي في بيت خلف باب الدار التي كان بها ساكنا ، فإذا انفتح باب الدار انطبق على باب البيت ، فيدخل الداخل الدار فلا يرى شيئا ، فلما استخرجوه حملوه على أيديهم ، وسموه ولي الله ، ولما رأوه سجدوا له ، وحضر معه جماعة من دعاته وخاصته ، وأعلمهم أن ( من ) أعظم الناس عليهم ذمة ومنة ، وأنه ردهم إلى الدين بعد خروجهم عنه ، وأنهم إن امتثلوا أوامره أنجز موعدهم ، وبلغوا آمالهم ، ورمز لهم رموزا ذكر فيها آيات من القرآن نقلها عن الوجه الذي أنزلت فيه ، فاعترف له من رسخ حب الكفر في قلبه أنه رئيسهم وكهفهم ، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل . القاسم بن أحمد
وسار بهم وهو محجوب يدعونه السيد ولا يبرزونه ، والقاسم يتولى الأمور ، وأعلمهم أن أهل السواد قاطبة خارجون إليه ، فأقام بسقي الفرات عدة أيام ، فلم يصل إليه منهم إلا خمسمائة رجل ، ثم وافته الجنود المذكورة من عند الخليفة ، فلقيهم زكرويه بالصوان ، وقاتلهم واشتدت الحرب بينهم ، وكانت الهزيمة أول النهار على القرامطة وكان زكرويه قد كمن لهم كمينا من خلفهم ، فلم يشعر أصحاب الخليفة إلا والسيف فيهم من ورائهم ، فانهزموا أقبح هزيمة ، ووضع القرامطة السيف فيهم ، فقتلوهم كيف شاءوا ، وغنموا سوادهم ، ولم يسلم من أصحاب الخليفة إلا من دابته قوية ، أو من أثخن بالجراح ، فوضع نفسه بين القتلى ، فتحاملوا بعد ذلك .
وأخذ للخليفة في هذا العسكر أكثر من ثلاثمائة جمازة عليها المال والسلاح ، وخمسمائة بغل ، وقتل من أصحاب الخليفة ، سوى الغلمان ، ألف وخمسمائة رجل ، وقوي القرامطة بما غنموا .
[ ص: 553 ] ولما ورد خبر هذه الوقعة إلى بغداذ أعظمها الخليفة والناس ، وندب إلى القرامطة محمد بن إسحاق بن كنداج ، وضم إليه من الأعراب بني شيبان وغيرهم أكثر من ألفي رجل ، وأعطاهم الأرزاق ، ورحل زكرويه من مكانه إلى نهر المثنية لنتن القتلى .