الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت إن تجر المفلس في المال الذي رده عليه غرماؤه وربح فيه ، أيكون هذا الربح بمنزلة الفائدة ، يشرع فيه جميع الغرماء ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم ; لأن مالكا قال : ما داينه الآخرون بعد الأولين ، فالآخرون أولى به إلا أن يفضل من دينهم فضلة ، فيكون الأولون والآخرون يتحاصون فيه بقدر ديونهم ، فما أقر هؤلاء في يديه بمنزلة ما لو داينه غيرهم بعد التفليس ، وما بقي في يديه بعد الذي أقروا في يديه فهو بمنزلة ما لو فضل في يديه ، بعد مداينة هؤلاء الذين داينوه بعد التفليس .

                                                                                                                                                                                      قلت : وإنما ينظر إلى ما بقي في يديه فيقيمه قيمة إن كان عروضا ، فما كان فيه من فضل عن الدين الذي تركوا في يديه ، فذلك لفضل الذي يشرع فيه الغرماء بما بقي لهم يوم فلسه هؤلاء جميعا في قول مالك ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم . وحدثنا سحنون عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال : أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، أن معاذ بن جبل وهو أحد قوم بني سلمة كثر دينه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله . ابن وهب عن ابن لهيعة عن عمارة بن غزية ويزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب قال : مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاذ بن جبل بأن خلعه من ماله ولم يأمره ببيعه ، في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة . ابن وهب عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري أنه قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تصدقوا عليه ، فتصدق عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك } .

                                                                                                                                                                                      قال مالك : الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه ، أن الحر إذا أفلس لا يؤاجر ، لقول الله تبارك وتعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } سورة البقرة مالك وعبد الله بن عمرو عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزني عن أبيه : أن رجلا من جهينة كان يسبق الحاج فيشتري الرواحل ، فيغلي ثم يسرع السير فيسبق الحاج ، فأفلس . فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقام عمر فقال : أما بعد أيها الناس ، فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال له سبق الحاج . ألا وإنه قد كان معرضا فأصبح قد دين به ، فمن كان له عليه حق فليأتنا بالغداة حتى نقسم ماله بين غرمائه بالغداة . ثم إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن . سحنون عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر بن عبد العزيز قضى في رجل غرق في دين ، أن يقسم ماله بين الغرماء ويترك حتى يرزقه الله . الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد مثل ذلك . حدثنا سحنون عن ابن وهب عن يونس عن ربيعة أنه قال : إذا فلس الرجل [ ص: 82 ] وتحاص غرماؤه ماله ، فمن بايعه بعد ذلك فإنما بايعه في غير أموال الغرماء الذين فلسوه ، وإنما بايعوه في ذمته وفيما يستقبل من رزق الله وإفادته ، فإن أعدم الثانية ، فالذين بايعوه بعد عدمه الأول ، أحق بماله فيتحاصون فيه دون الغرماء الأولين ، إلا أن يكون عقل في ذمة أو ميراث ورثة فأما كل عمل أداره أو كان مما رجعت به الأرزاق عليه ، فهو للذين بايعوه بعد عدمه ; لأن ذلك لهم خاصة لما خرجت فيه أموالهم ; لأنه لم يكن يستطيع أن يبلغ في الناس إلا بمعايشة من عايشه ومداينة من داينه وابتغائه الرزق من ربه بالإدارة والتجارة . فأما الذين يفلسون غريمهم ، فإن حقوقهم تدخل في فضول إن كانت بيديه بعد قضاء حقوق الآخرين .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية