ذكر صلاح الدين الموصل حصر
لما ملك صلاح الدين نصيبين ، جمع أمراءه وأرباب المشورة عنده واستشارهم بأي البلاد يبدأ ، وأيها يقصد ، بالموصل أم بسنجار أم بجزيرة ابن عمر ، فاختلفت آراؤهم ، فقال له : لا ينبغي أن يبدأ بغير مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الموصل ، فإنها في أيدينا لا مانع لها ، فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا إليها [ ص: 464 ] تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية .
ووافقه ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه ، وكان قد بذل لصلاح الدين مالا كثيرا ليقطعه الموصل إذا ملكها . وقد أجابه صلاح الدين إلى ذلك ، فأشار بهذا الرأي لهواه ، فسار صلاح الدين إلى الموصل ، وكان عز الدين صاحبها ومجاهد الدين قد جمعا بالموصل العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل ، وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار ، وبذلا الأموال الكثيرة ، وأخرج مجاهد الدين من ماله كثيرا ، واصطلى الأمور بنفسه ، فأحسن تدبيرها ، وشحنوا ما بقي بأيديهم من البلاد ، كالجزيرة وسنجار وإربل وغيرها من البلاد ، بالرجال والسلاح والأموال .
وسار صلاح الدين حتى قارب الموصل وترك عسكره ، وانفرد هو ومظفر الدين وابن عمه ناصر الدين شيركوه ، ومعهما نفر من أعيان دولته ، وقربوا من البلد ، فلما قربوا رآه وحققه ، فرأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه ، فإنه رأى بلدا عظيما كبيرا ، ورأى السور والفصيل قد ملئا من الرجال ، وليس فيه شرافة إلا وعليها رجل يقاتل سوى من عليه من عامة البلد المتفرجين ، فلما رأى ذلك علم أنه لا يقدر على أخذه ، وأنه يعود خائبا ، فقال لناصر الدين ابن عمه : إذا رجعنا إلى المعسكر فاحمل ما بذلت من المال فنحن معك على القول . فقال ناصر الدين : قد رجعت عما بذلت من المال ، فإن هذا البلد لا يرام . فقال له ولمظفر الدين : غررتماني وأطمعتماني في غير مطمع ، ولو قصدت غيره قبله لكان أسهل أخذا بالاسم والهيبة التي حصلت لنا ومتى نازلناه ، وعدنا منه ، ينكسر ناموسنا ويفل حدنا وشوكتنا .
ثم رجع إلى معسكره وصبح البلد ، وكان نزوله عليه في رجب ، فنازله وضايقه ، ونزل محاذي باب كندة ، وأنزل صاحب الحصن بباب الجسر ، وأنزل أخاه تاج الملوك عند الباب العمادي ، وأنشب القتال ، فلم يظفر ، وخرج إليه يوما بعض العامة فنالوا منه ، ولم يمكن عز الدين ومجاهد الدين أحدا من العسكر [ أن ] يخرجوا لقتال بل ألزموا الأسوار ، ثم إن تقي الدين أشار على عمه صلاح الدين بنصب منجنيق ، فقال : مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق ، ومتى نصبناه أخذوه ، ولو خربنا برجا وبدنة من يقدر على الدخول للبلد وفيه هذا الخلق الكثير ؟ فألح تقي الدين وقال : نجربهم به ، فنصب منجنيقا ، فنصب عليه من البلد تسعة مجانيق ، وخرج جماعة من العامة فأخذوه وجرى عنده قتال كثير ، فأخذ بعض العامة لالكة من رجليه ، فيها المسامير الكثيرة ، ورمى بها [ ص: 465 ] أميرا يقال له جاولي الأسدي ، مقدم الأسدية وكبيرهم ، فأصاب صدره ، فوجد لذلك ألما شديدا ، وأخذ اللالكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال : قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها ، وألقى اللالكة ، وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بهذه .
ثم إن صلاح الدين رحل من قرب البلد ، ونزل متأخرا ، خوفا من البيات ، فإنه لقربه كان لا يأمن ذلك ، وكان سببه أيضا أن مجاهد الدين أخرج في بعض الليالي جماعة من باب السر الذي للقلعة ، ومعهم المشاعل ، فكان أحدهم يخرج من الباب وينزل إلى دجلة ، مما يلي عين الكبريت ، ويطفئ المشعل ، فرأى العسكر الناس يخرجون ، فلم يشكوا في الكبسة ، فحملهم ذلك على الرحيل والتأخر ليتعذر البيات على أهل الموصل .
وكان صدر الدين شيخ الشيوخ - رحمه الله - قد وصل إليه ، قبل نزوله على الموصل ، ومعه بشير الخادم ، وهو من خواص الخليفة الناصر لدين الله ، في الصلح ، فأقاما معه على الموصل ، وترددت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصلح ، فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم ، فأجاب صلاح الدين إلى ذلك بشرط أن تسلم إليه حلب ، فامتنع عز الدين ومجاهد الدين ، ثم نزل عن ذلك ، وأجاب إلى تسليم البلاد بشرط أن يتركوا إنجاد صاحب حلب عليه ، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضا ، وقال عز الدين : هو أخي وله العهود والمواثيق ولا يسعني نكثها .
ووصلت أيضا رسل صاحب قزل أرسلان أذربيجان ، ورسل شاه أرمن صاحب خلاط ، في المعنى ، فلم ينتظم أمر ولا تم صلح ، فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضا ، ولا يحصل على غير العناء والتعب ، وأن من بسنجار من العساكر الموصلية يقطعون طريق من يقصدونه من عساكره وأصحابه ، سار من الموصل إليها .