الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (3) قوله : إلا تذكرة : في نصبه أوجه، أحدها: أن تكون مفعولا من أجله. والعامل فيه فعل الإنزال، وكذلك "تشقى" علة له أيضا، ووجب مجيء الأول مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل، ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. هذا كلام الزمخشري، ثم قال: "فإن قلت: "هل يجوز أن تقول: ما أنزلنا، أن تشقى كقوله "أن تحبط أعمالكم"؟ قلت: بلى، ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في "واختار موسى قومه"، وأما النصبة في "تذكرة" فهي كالتي في "ضربت زيدا" لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: قد منع أبو البقاء أن تكون "تذكرة" مفعولا له لأنزلنا المذكورة، لأنها قد تعدت إلى مفعول له وهو "لتشقى" فلا تتعدى إلى آخر من جنسه. وهذا المنع ليس بشيء; لأنه يجوز أن يعلل الفعل بعلتين فأكثر، وإنما هذا بناء منه على أنه لا يفضي العامل من هذه الفضلات إلا شيئا واحدا، إلا بالبدلية أو العطف.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن تكون "تذكرة" بدلا من محل "لتشقى" وهو رأي الزجاج، وتبعه ابن عطية، واستبعده أبو جعفر، ورده الفارسي بأن التذكرة ليست [ ص: 9 ] بشقاء. وهو رد واضح. وقد أوضح الزمخشري هذا فقال: "فإن قلت: هل يجوز أن تكون "تذكرة" بدلا من محل "لتشقى"؟ قلت: لا; لاختلاف الجنسين ولكنها نصبت على الاستثناء المنقطع الذي "إلا" فيه بمعنى "لكن".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "يعني باختلاف الجنسين أن نصبة "تذكرة" نصبة صحيحة ليست بعارضة، والنصبة التي تكون في "لتشقى" بعد نزع الخافض نصبة عارضة. والذي نقول: إنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه". قلت: ليس مراد الزمخشري باختلاف الجنسين إلا ما ذكرته عن الفارسي ردا على الزجاج، وأي أثر لاختلاف النصبين في ذلك؟

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون منصوبا على الاستثناء المنقطع أي: لكن أنزلناه تذكرة. الرابع: أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر، أي: لكن ذكرنا، أو تذكر به أنت تذكرة. الخامس: أنه مصدر في موضع الحال أي: إلا مذكرا. السادس: أنه بدل من "القرآن"، ويكون القرآن هو التذكرة، قاله الحوفي. السابع: أنه مفعول له أيضا، ولكن العامل فيه "لتشقى" ويكون المعنى كما قال الزمخشري: "إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم، وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون "تذكرة" حالا ومفعولا له" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت: من أين أخذت أنه لما جعله حالا ومفعولا له أن العامل فيه [ ص: 10 ] "لتشقى"؟ وما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال؟ فالجواب أن هذا الوجه قد تقدم له في قوله: "وكل واحد من " لتشقى" و "تذكرة" علة للفعل". وأيضا فإن تفسيره للمعنى المذكور منصب على تسلط "لتشقى" على "تذكرة". إلا أن أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل "لتشقى" في "تذكرة" فقال: "ولا يصح أن يعمل فيها "لتشقى" لفساد المعنى"، وجوابه ما تقدم. ولا غرو في تسمية التعب شقاء. قال الزمخشري: "والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: "أتعب من رائض مهر" و "أشقى من رائض مهر".

                                                                                                                                                                                                                                      و "لمن يخشى" متصل بـ "تذكرة". وزيدت اللام في المفعول تقوية للعامل لكونه فرعا، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه صفة لـ "تذكرة".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية