الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (25) قوله : ويصدون : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه معطوف على ما قبله. وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات. أحدها: أن المضارع قولا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال، أو استقبال، وإنما يراد به مجرد الاستمرار. ومثله "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله". الثاني: أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي. الثالث: أنه على بابه، وأن الماضي قبله مؤول بالمستقبل.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني: أنه حال من فاعل "كفروا" وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسد ظاهرا; لأنه مضارع مثبت، وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو، وما ورد منه على قلته مؤول فلا يحمل عليه القرآن، وعلى هذين القولين فالخبر محذوف. واختلفوا في موضع تقديره: فقدره ابن عطية بعد قوله "والباد" أي: إن الذين كفروا خسروا أو هلكوا ونحو ذلك. وقدره الزمخشري بعد قوله "والمسجد [ ص: 256 ] الحرام" أي: إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم. وإنما قدره كذلك لأن قوله: "نذقه من عذاب أليم" يدل عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الشيخ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام: "لا يصح"، قال: "لأن "الذي" صفة للمسجد الحرام، فموضع التقدير هو بعد "الباد" يعني: أنه يلزم من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو خبر "إن"، فيصير التركيب هكذا: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس. وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن "الذي جعلناه" لا نسلم أنه نعت للمسجد حتى يلزم ما ذكر، بل نجعله مقطوعا عنه نصبا أو رفعا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الشيخ: "لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية; لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى; لأن من أذيق العذاب خسر وهلك".

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث: أن الواو في "ويصدون" مزيدة في خبر "إن" تقديره: إن الذين كفروا يصدون. وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه، وقال ابن عطية: "وهذا مفسد للمعنى المقصود". قلت: ولا أدري فساد المعنى من أي جهة؟ ألا ترى أنه لو صرح بقولنا: إن الذين كفروا يصدون لم يكن فيه فساد معنى. فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي. اللهم إلا أن يريد معنى خاصا [644/أ] يفسد لهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 257 ] قوله: "الذي جعلناه" يجوز جره على النعت أو البدل أو البيان، والنصب بإضمار فعل، والرفع بإضمار مبتدأ. و "جعل" يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صير، وأن يتعدى لواحد.

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على رفع "سواء" وقرأه حفص عن عاصم بالنصب هنا وفي الجاثية: "سواء محياهم". ووافق على الذي في الجاثية الأخوان، وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع فإن قلنا: إن جعل بمعنى صير كان في المفعول الثاني أوجه، أحدها: - وهو الأظهر- أن الجملة من قوله "سواء العاكف فيه" هي المفعول الثاني، ثم الأحسن في رفع "سواء" أن يكون خبرا مقدما، والعاكف والبادي مبتدأ مؤخر. وإنما وحد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين; لأن سواء في الأصل مصدر وصف به. وقد تقدم هذا أول البقرة. وأجاز بعضهم أن يكون "سواء" مبتدأ، وما بعده الخبر. وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه -أعني كون الجملة مفعولا ثانيا- فقوله "للناس" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالجعل أي: جعلناه لأجل الناس كذا. والثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنه حال من مفعول "جعلناه" ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك وليس معناه متضحا.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني: أن "للناس" هو المفعول الثاني. والجملة من قوله "سواء [ ص: 258 ] العاكف" في محل نصب على الحال: إما من الموصول، وإما من عائده. وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء. وفيه نظر; لأنه جعل هذه الجملة التي هي محط الفائدة فضلة.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث: أن المفعول الثاني محذوف، قال ابن عطية: "والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبدا. فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن الشيخ". قال "ولا يحتاج إلى هذا التقدير، إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب. فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله "للناس" متعلقا بالجعل على العلية. وجوز فيه أبو البقاء وجهين آخرين، أحدهما: أنه حال من مفعول "جعلناه". والثاني: أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر. وهذا الثاني لا يتعقل، كيف يكون "للناس" مفعولا عدي إليه الفعل بالحرف؟ هذا ما لا يعقل. فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على قراءة حفص: فإن قلنا: "جعل" يتعدى لاثنين كان "سواء" مفعولا ثانيا. وإن قلنا يتعدى لواحد كان حالا من هاء "جعلناه" وعلى التقديرين: فالعاكف مرفوع به على الفاعلية; لأنه مصدر وصف به فهو في قوة اسم الفاعل المشتق تقديره: جعلناه مستويا فيه العاكف. ويدل عليه [ ص: 259 ] قولهم: "مررت برجل سواء هو والعدم". فـ "هو" تأكيد للضمير المستتر فيه، و "العدم" نسق على الضمير المستتر ولذلك ارتفع. ويروى: "سواء والعدم" بدون تأكيد وهو شاذ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش وجماعة "سواء" نصبا، "العاكف" جرا. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدل من "الناس" بدل تفصيل. والثاني: أنه عطف بيان. وهذا أراد ابن عطية بقوله "عطفا على الناس" ويمتنع في هذه القراءة رفع "سواء" لفساده صناعة ومعنى; ولذلك قال أبو البقاء: "وسواء على هذا نصب لا غير".

                                                                                                                                                                                                                                      وأثبت ابن كثير ياء "والبادي" وصلا ووقفا، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلا وحذفاها وقفا. وحذفها الباقون وصلا ووقفا وهي محذوفة في الإمام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد" فيه أربعة أوجه، أحدها: أن مفعول "يرد" محذوف، وقوله: "بإلحاد بظلم" حالان مترادفتان. والتقدير: ومن يرد فيه مرادا ما، عادلا عن القصد ظالما، نذقه من عذاب أليم. وإنما حذف ليتناول كل متناول. قال معناه الزمخشري. والثاني: أن المفعول أيضا محذوف تقديره: ومن يرد فيه تعديا، و "بإلحاد" حال أي: ملتبسا بإلحاد. و "بظلم" بدل بإعادة الجار. الثالث: أن يكون "بظلم" متعلقا بـ "يرد"، والباء للسببية [ ص: 260 ] أي بسبب الظلم و "بإلحاد" مفعول به. والباء مزيدة فيه كقوله: "ولا تلقوا [644/ب] بأيديكم" [وقوله:]


                                                                                                                                                                                                                                      3380 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يقرأن بالسور



                                                                                                                                                                                                                                      وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      3381 - ضمنت برزق عيالنا أرماحنا      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      أي: ضمنت رزق. ويؤيده قراءة الحسن "ومن يرد إلحاده بظلم". قال الزمخشري: أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتساع في الظرف كـ "مكر اليل" ومعناه: ومن يرد أن يلحد فيه ظالما. الرابع: أن يضمن "يرد" معنى يتلبس، فلذلك تعدى بالباء أي: ومن يتلبس بإلحاد مريدا له.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 261 ] والعامة على "يرد" بضم الياء من الإرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قرئ "يرد" بفتح الياء. وقال الزمخشري: "من الورود ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالما".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية