ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير ( فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد فذبحه ، فأخذ الحسين دمه ) فصبه في الأرض ثم قال : ربي إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين .
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله ، وقال العباس بن علي لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان : تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم .
ففعلوا فقتلوا ، وحمل هانئ بن ثبيت الحضرمي على فقتله ، ثم حمل على عبد الله بن علي جعفر بن علي فقتله ، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي ، ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه ، ورمى رجل من بني أبان أيضا فقتله وجاء برأسه . محمد بن علي بن أبي طالب
وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظر كأنه مذعور ، فحمل عليه رجل قيل إنه هانئ بن ثبيت الحضرمي فقتله .
واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء ، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : اللهم إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك ! اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا !
وقيل الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم ، فمكث ذلك الرجل يسيرا ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ، فكان يروح عنه ويبرد له الماء فيه السكر وعساس فيها اللبن ويقول : اسقوني ، فيعطى القلة أو العس فيشربه ، فإذا شربه اضطجع هنيهة ثم يقول : اسقوني قتلني الظمأ ، فما لبث إلا يسيرا حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير .
ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل [ ص: 182 ] الحسين فحالوا بينه وبين رحله ، فقال لهم الحسين : ويلكم ! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم .
فقالوا : ذلك لك يا ابن فاطمة .
وأقدم عليه شمر بالرجالة منهم : أبو الجنوب ، واسمه عبد الرحمن الجعفي ، والقشعم بن نذير الجعفي ، وصالح بن وهب اليزني ، وسنان بن أنس النخعي ، وخولي بن يزيد الأصبحي ، وجعل شمر يحرضهم على الحسين وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه ، ثم إنهم أحاطوا به .
وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه وقد أهوى بحر بن كعب بن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف ، فقال الغلام : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي ! فضربه بالسيف ، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة ، فنادى الغلام : يا أمتاه ! فاعتنقه الحسين وقال له : يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين ، برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وحمزة وجعفر والحسن .
وقال الحسين : اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض ! اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض عنهم الولاة أبدا ، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا !
ثم ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه ، ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل ففزره ونكثه لئلا يسلبه ، فقال له بعضهم : لو لبست تحته التبان .
قال : ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه .
فلما قتل سلبه بحر بن كعب ، وكانت يداه في الشتاء تنضحان بالماء ، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود .
وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا ، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا ، فما رئي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا منه ، ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه ، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب .
فبينما هو كذلك إذ خرجت زينب وهي تقول : ليت السماء انطبقت على الأرض ! وقد دنا ، فقالت : يا عمر بن سعد عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟ فدمعت عيناه [ ص: 183 ] حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها .
وكان على الحسين جبة من خز ، وكان معتما مخضوبا بالوسمة ، وقاتل راجلا قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول : أعلى قتلي تجتمعون ؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله ، الله أسخط عليكم لقتله مني ! وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ! أما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم .
قال : ومكث طويلا من النهار ، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء ، فنادى شمر في الناس : ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم ! فحملوا عليه من كل جانب ، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى وضرب أيضا على عاتقه ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو ، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع ، وقال لخولي بن يزيد الأصبحي : احتز رأسه ، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد ، فقال له سنان ، فت الله عضدك ! ونزل إليه فذبحه واحتز رأسه فدفعه إلى خولي ، ( وسلب الحسين ما كان عليه ، فأخذ سراويله ) بحر بن كعب ( وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته ، وهي من خز ، فكان يسمى بعد قيس قطيفة ) ، وأخذ نعليه الأودي ، وأخذ سيفه رجل من دارم ، ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها ونهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها .
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة ( غير الرمية ) .
وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخنا بالجراحات ، فسمعهم يقولون : قتل الحسين ! فوجد خفة فوثب ومعه سكين ، وكان سيفه قد أخذ [ ص: 184 ] فقاتلهم بسكينه ساعة ثم قتل ، قتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد بن رقاد الجنبي ، وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين .
ثم انتهوا إلى فأراد علي بن الحسين زين العابدين شمر قتله ، فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله أتقتل الصبيان ! وكان مريضا ، وجاء فقال : لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرض لهذا الغلام المريض ، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده ، فلم يرد أحد شيئا . عمر بن سعد
فقال الناس لسنان بن أنس النخعي : قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلت أعظم العرب خطرا ، أراد أن يزيل ملك هؤلاء ، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلا .
فأقبل على فرسه ، وكان شجاعا شاعرا به لوثة ، حتى وقف على باب فسطاط ثم نادى بأعلى صوته : عمر بن سعد
أوقر ركابي فضة وذهبا إني قتلت السيد المحجبا قتلت خير الناس أما وأبا
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال : أشهد أنك مجنون ، أدخلوه علي . عمر بن سعد
فلما دخل حذفه بالقضيب وقال : يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام ؟ والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك ! وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة الحسين ، فقال : ما أنت ؟ فقال : أنا عبد مملوك .
فخلى سبيله ، فلم ينج منهم غيره وغير المرقع بن ثمامة الأسدي ، وكان قد نثر نبله فقاتل ، فجاء نفر من قومه فآمنوه فخرج إليهم ، فلما أخبر ابن زياد خبره نفاه إلى الزارة .
ثم نادى في أصحابه من ينتدب إلى عمر بن سعد الحسين فيوطئه فرسه ، فانتدب عشرة ، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي ، وهو الذي سلب قميص الحسين ، فبرص بعد ، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره .
وكان عدة من قتل من أصحاب الحسين اثنين وسبعين رجلا .
[ ص: 185 ] ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم .
وقتل من أصحاب ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى فصلى عليهم عمر بن سعد عمر ودفنهم .