قال : أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى ؟ فقال : والله لو كان الأمر إلي لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك . عمر بن سعد
فأقبل يدنو نحو الحسين قليلا قليلا ، وأخذته رعدة ، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس : والله إن أمرك لمريب ! والله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن ! ولو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك .
فقال له : إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت .
ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين ، فقال له : جعلني الله فداك يا ابن رسول الله ! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا ، ولا [ ص: 172 ] يبلغون منك هذه المنزلة أبدا فقلت في نفسي : لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك ، وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي مؤاسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى ذلك توبة ؟ قال : نعم ، يتوب الله عليك ويغفر لك .
وتقدم الحر أمام أصحابه ثم قال : أيها القوم ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله ؟ فقال عمر : لقد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلا فقال : يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر ! أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم لتقتلوه ؟ أمسكتم بنفسه وأحطتم به ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هو وأهله قد صرعهم العطش ! بئسما خلفتم محمدا في ذريته ! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه ! فرموه بالنبل ، فرجع حتى وقف أمام الحسين .
ثم قدم برايته ، وأخذ سهما فرمى به وقال : اشهدوا لي أني أول رام ! ثم رمى الناس ، وبرز عمر بن سعد يسار ، مولى زياد ، وسالم ، مولى عبيد الله ، وطلبا البراز ، فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبي ، وكان قد أتى الحسين من الكوفة وسارت معه امرأته ، فقالا له : من أنت ؟ فانتسب لهما .
فقالا : لا نعرفك ، ليخرج إلينا زهير بن القين ، أو حبيب بن مطهر ، أو برير بن خضير .
وكان يسار أمام سالم ، فقال له الكلبي : يا ابن الزانية ، وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ، وما يخرج إليك أحد إلا وهو خير منك ! ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتى برد فاشتغل به يضربه ، فحمل عليه سالم ، فلم يأبه له حتى غشيه فضربه ، فاتقاه الكلبي بيده فأطار أصابع كفه اليسرى ، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله ، وأخذت امرأته عمودا ، وكانت تسمى أم وهب ، وأقبلت نحو زوجها وهي تقول : فداك أبي وأمي ! قاتل دون الطيبين ذرية محمد ! فردها نحو النساء ، فامتنعت [ ص: 173 ] وقالت : لن أدعك دون أن أموت معك .
فناداها الحسين فقال : جزيتم من أهل بيت خيرا ! ارجعي رحمك الله ، ليس الجهاد إلى النساء . فرجعت .
فزحف عمرو بن الحجاج في ميمنة عمر ، فلما دنا من الحسين جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين .
وتقدم رجل منهم يقال له ابن حوزة فقال : أفيكم الحسين ؟ فلم يجبه أحد ، فقالها ثلاثا فقالوا : نعم ، فما حاجتك ؟ قال : يا حسين أبشر بالنار ! قال له : كذبت بل أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع ، فمن أنت ، قال : ابن حوزة . فرفع الحسين يديه فقال : اللهم حزه إلى النار ! فغضب ابن حوزة فأقحم فرسه في نهر بينهما فتعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت فخذه وساقه وقدمه وبقي جنبه الآخر متعلقا بالركاب يضرب به كل حجر وشجر حتى مات .
وكان مسروق بن وائل الحضرمي قد خرج معهم وقال لعلي أصيب رأس الحسين ، فأصيب به منزلة عند ابن زياد ، فلما رأى ما صنع الله بابن حوزة بدعاء الحسين رجع وقال : لقد رأيت من أهل البيت شيئا ، لا أقاتلهم أبدا .
ونشب القتال وخرج يزيد بن معقل حليف عبد القيس فقال : يا برير بن خضير كيف ترى الله صنع بك ؟ قال : والله لقد صنع بي خيرا وصنع بك شرا .
فقال : كذبت ، وقبل اليوم ما كنت كذابا ، وأنا أشهد أنك من الضالين .
فقال له : هل لك أن أباهلك ، أن يلعن الله الكاذب ويقتل المبطل ، ثم أخرج أبارزك ! فخرجا فتباهلا أن يلعن الله الكاذب ويقتل المحق المبطل ثم تبارزوا فاختلفا ضربتين فضرب ابن خضير يزيد بن معقل برير بن خضير فلم يضره شيئا وضربه ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ فسقط والسيف في رأسه ، فحمل عليه ابن خضير رضي بن منقذ العبدي ، فاعتنق ، فاعتركا ساعة ثم إن ابن خضير قعد على صدره ، فحمل ابن خضير كعب بن جابر الأزدي عليه بالرمح فوضعه في ظهره حتى غيب السنان فيه ، فلما وجد مس الرمح نزل عن رضي فعض أنفه وقطع طرفه ، وأقبل إليه كعب بن جابر فضربه بسيفه حتى قتله ، وقام رضي ينفض التراب عن قبائه ، فلما رجع كعب قالت له امرأته : أعنت على ابن [ ص: 174 ] فاطمة وقتلت بريرا سيد القراء ، [ والله ] لا أكلمك أبدا !
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري وقاتل دون الحسين فقتل ، وكان أخوه مع ، فنادى : يا عمرو بن سعد حسين يا كذاب ابن الكذاب ! أضللت أخي وغررته حتى قتلته ! فقال : إن الله لم يضل أخاك بل هداه وأضلك .
قال : قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك .
فحمل واعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه ، فحمل أصحابه فاستنقذوه فدووي بعد فبرأ .
وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالا شديدا ، وبرز إليه يزيد بن سفيان فقتله الحر ، وقاتل نافع بن هلال مع الحسين أيضا فبرز إليه مزاحم بن حريث فقتله نافع .
فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : أتدرون من تقاتلون ؟ فرسان المصر ، قوما مستميتين ، لا يبرز إليهم منكم أحد فإنهم قليل وقل ما يبقون ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم .
يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم ، لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام .
فقال عمر : الرأي ما رأيت ، ومنع الناس من المبارزة . قال : وسمعه الحسين فقال : يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين أم أنتم ؟ والله لتعلمن لو قبضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أينا المارق .
ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي ، وانصرف عمرو ومسلم صريع ، فمشى إليه وبه رمق فقال : رحمك الله يا مسلم بن عوسجة ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . ودنا منه حبيب بن مطهر وقال : عز علي مصرعك ، أبشر بالجنة ، ولولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل .
فقال : أوصيك بهذا ، رحمك الله ، وأومأ بيده نحو الحسين ، أن تموت دونه .
فقال : أفعل .
ثم مات مسلم وصاحت جارية له فقالت : يا ابن عوسجة ! فينادي أصحاب عمرو : قتلنا مسلما .
فقال شبث لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون أنفسكم لغيركم ، أتفرحون بقتل مثل مسلم ؟ أما والذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين ، فلقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين ، أفيقتل مثله وتفرحون ؟
[ ص: 175 ] وكان الذي قتله مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي .
وحمل شمر في الميسرة فثبتوا له وحملوا على الحسين وأصحابه من كل جانب ، فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين وقاتل قتالا شديدا ، فقتله هانئ بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التيمي من تيم الله بن ثعلبة ، وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا وهم اثنان وثلاثون فارسا ، فلم تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته .
فلما رأى ذلك عزرة بن قيس ، وهو على خيل الكوفة ، بعث إلى عمر فقال : ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة ؟ ابعث إليهم الرجال والرماة .
فقال : ألا تقدم إليهم ! فقال : سبحان الله ! شيخ لشبث بن ربعي مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة ، لم تجد لهذا غيري ! ولم يزالوا يرون من شبث الكراهة للقتال حتى إنه كان يقول في إمارة مصعب : لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا ولا يسددهم لرشد ، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع ومع ابنه علي بن أبي طالب آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ، ضلال يا لك من ضلال !
فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية ، فلما دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة كلهم ، وقاتل الحر بن يزيد راجلا قتالا شديدا ، فقاتلوهم ، إلى أن انتصف النهار ، أشد قتال خلقه الله ، لا يقدرون يأتونهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم . فلما رأى ذلك عمر أرسل رجالا يقوضونهم عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخللون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوض وينهب ، ويرمونه من قريب أو يعقرونه ، فأمر بها فأحرقت ، فقال لهم عمر بن سعد الحسين : دعوهم فليحرقوها فإنهم إذا حرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها . فكان كذلك .
وخرجت امرأة الكلبي فجلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه وتقول : هنيئا لك الجنة ! فأمر شمر غلاما اسمه رستم فضرب رأسها بالعمود فماتت مكانها .
وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين ونادى : علي بالنار حتى أحرق هذا البيت [ ص: 176 ] على أهله .
فصاح النساء وخرجن ، وصاح به الحسين : أنت تحرق بيتي على أهلي ؟ حرقك الله بالنار ! فقال حميد بن مسلم لشمر : إن هذا لا يصلح [ لك ] ، تعذب بعذاب الله وتقتل الولدان والنساء ، والله إن في قتل الرجال ما يرضى به أميرك ! فلم يقبل منه ، فجاءه فنهاه فانتهى ، وذهب لينصرف فحمل عليه شبث بن ربعي زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت وقتلوا أبا عزة الضبابي ، وكان من أصحاب شمر .
وعطف الناس عليهم فكثروهم ، وكانوا إذا قتل منهم الرجل والرجلان يبين فيهم لقلتهم ، وإذا قتل في أولئك لا يبين فيهم لكثرتهم .
ولما حضر وقت الصلاة قال أبو ثمامة الصائدي للحسين : نفسي لنفسك الفداء ! أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة ! فرفع الحسين رأسه وقال : ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها ، ثم قال : سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي .
ففعلوا ، فقال لهم الحصين : إنها لا تقبل .
فقال له حبيب ( بن مطهر : زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقبل ) منك يا حمار ! فحمل عليه الحصين ، وخرج إليه ( حبيب ) فضرب وجه فرسه بالسيف فشب فسقط عنه الحصين فاستنقذه أصحابه ، وقاتل حبيب ( قتالا شديدا فقتل رجلا من بني تميم اسمه بديل بن صريم ، وحمل عليه آخر من تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين على رأسه بالسيف فوقع ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه ، فقال له الحصين : أنا شريك في قتله .
فقال الآخر : لا والله ! فقال له الحصين : أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس أني شركت في قتله ثم خذه وامض به إلى ابن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه .
ففعل وجال به في الناس ثم دفعه إليه ، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الرأس وجعله في عنق فرسه ) ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر فبصر به القاسم بن حبيب ، وقد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه ، فارتاب به الرجل ، فسأله عن حاله ، فأخبره وطلب [ ص: 177 ] الرأس ليدفنه ، فقال : إن الأمير لا يرضى أن يدفن وأرجو أن يثيبني الأمير .
فقال له : لكن الله لا يثيبك إلا أسوأ الثواب .
ولم يزل يطلب غرة قاتل أبيه حتى كان زمان مصعب ، وغزا مصعب باجميرى ، ودخل القاسم عسكره فإذا قاتل أبيه في فسطاطه فدخل عليه نصف النهار فقتله .
فلما قتل حبيب هد ذلك الحسين ، وقال عند ذلك : أحتسب نفسي وحماة أصحابي .
وحمل الحر وزهير بن القين فقاتلا قتالا شديدا ، وكان إذا حمل أحدهما وغاض فيهم حمل الآخر حتى يخلصه ، فعلا ذلك ساعة ثم إن رجالة حملت على الحر بن يزيد فقتلته ، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوه ، ثم صلوا الظهر ، صلى بهم الحسين صلاة الخوف ، ثم اقتتلوا بعد الظهر ، فاشتد قتالهم ، ووصل إلى الحسين ، فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل وهو بين يديه حتى سقط .
وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا ، فحمل عليه كثير بن عبيد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه ، وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواه نبله ، وكانت مسمومة ، فقتل بها اثني عشر رجلا سوى من جرح ، فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيرا ، فأخذه شمر بن ذي الجوشن فأتى به والدم على وجهه وهو يقول : لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني . عمر بن سعد
فانتضى شمر سيفه ليقتله ، فقال له نافع : والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه ! فقتله شمر ثم حمل على أصحاب الحسين .
فلما رأوا أنهم قد كثروا ، وأنهم لا يقدرون يمنعون الحسين ولا أنفسهم تنافسوا أن يقتلوا بين يديه ، فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان إليه فقالا : قد حازنا [ ص: 178 ] الناس إليك .
فجعلا يقاتلان بين يده ، وأتاه الفتيان الجابريان وهما سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عم وأخوان لأم وهما يبكيان ، فقال لهما : ما يبكيكما ؟ إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين .
فقالا : والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك ، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك ! فقال : جزاكما الله جزاء المتقين !
وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين وجعل ينادي : ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد . يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى ، فقال له الحسين : رحمك الله ! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا ليستبيحوك وأصحابك فكيف بهم الآن قد قتلوا إخوانك الصالحين ! فسلم على الحسين وصلى عليه وعلى أهل بيته وتقدم وقاتل حتى قتل .
وتقدم الفتيان الجابريان فودعا الحسين وقاتلا حتى قتلا .
وجاء عابس بن أبي شيب الشاكري وشوذب مولى شاكر إلى الحسين فسلما عليه وتقدما فقاتلا فقتل شوذب ، وأما عابس فطلب البراز فتحاماه الناس لشجاعته ، فقال لهم عمر : ارموه بالحجارة ، فرموه من كل جانب ، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وحمل على الناس فهزمهم بين يديه ، ثم رجعوا عليه فقتلوه وادعى قتله جماعة .
وجاء الضحاك بن عبد الله المشرفي إلى الحسين فقال : يا ابن رسول الله قد علمت أني قلت لك إني أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا ، فإذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف .
فقال له الحسين : صدقت ، وكيف لك بالنجاء ؟ إن قدرت عليه فأنت في [ ص: 179 ] حل .
قال : فأقبلت إلى فرسي ، وكنت قد تركته في خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر ، وقاتلت راجلا وقتلت رجلين وقطعت يد آخر ، ودعا إلى الحسين مرارا ، قال : واستخرجت فرسي واستويت عليه وحملت على عرض القوم فأفرجوا لي وتبعني منهم خمسة عشر رجلا ففتهم وسلمت .
وجثا أبو الشعثاء الكندي ، وهو يزيد بن أبي زياد ، بين يدي الحسين ، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم ، وكلما رمى يقول له الحسين : اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة ! وكان يزيد هذا فيمن خرج مع ، فلما ردوا الشروط على عمر بن سعد الحسين عدل إليه فقاتل بين يديه ، وكان أول من قتل .
وأما الصيداوي عمرو بن خالد وجبار بن الحارث السلماني وسعد مولى عمرو بن خالد ومجمع بن عبيد الله العائذي فإنهم قاتلوا أول القتال ، فلما وغلوا فيهم عطفوا إليهم فقطعوهم عن أصحابهم ، فحمل العباس بن علي فاستنقذهم وقد جرحوا ، فلما دنا منهم عدوهم حملوا عليهم فقاتلوا فقتلوا في أول الأمر في مكان واحد .
وكان آخر من بقي من أصحاب الحسين سويد بن أبي المطاع الخثعمي ، وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر ابن الحسين ، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية ، وذلك أنه حمل عليهم وهو يقول :
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
ففعل ذلك مرارا ، فحمل عليه مرة بن منقذ العبدي فطعنه فصرع وقطعه الناس بسيوفهم ، فلما رآه الحسين قال : قتل الله قوما قتلوك يا بني ! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول : على الدنيا بعدك العفاء .
وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه ، [ ص: 180 ] فقال : احملوا أخاكم ، فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .
ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فلم يستطع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله .
وحمل الناس عليهم من كل جانب ، فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله ، وحمل عثمان بن خالد بن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه ، ورمى عبد ( الله بن عروة ) الخثعمي جعفر بن عقيل فقتله .
ثم حمل القاسم بن الحسن بن علي وبيده السيف ، فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي فضرب رأسه بالسيف فسقط القاسم إلى الأرض لوجهه وقال : يا عماه ! فانقض الحسين إليه كالصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمرا بالسيف فاتقاه بيده فقطع يده من المرفق فصاح ، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمرا فاستقبلته بصدورها وجالت عليه فوطئته حتى مات ، وانجلت الغبرة والحسين واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه والحسين يقول : بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ! ثم قال : عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوته ، والله هذا اليوم كثر واتره وقل ناصره ! ثم احتمله على صدره حتى ألقاه مع ابنه علي ومن قتل معه من أهل بيته .