الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في الليل والنهار ، أيهما خلق قبل صاحبه ؟

قد ذكرنا ما خلق الله تعالى من الأشياء قبل خلق الأوقات ، وأن الأزمنة والأوقات إنما هي ساعات الليل والنهار ، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس ، والقمر درجات الفلك .

[ ص: 22 ] فلنذكر الآن بأي ذلك كان الابتداء ، أبالليل أم بالنهار ؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، فإن بعضهم يقول : إن الليل خلق قبل النهار ، ويستدل على ذلك بأن النهار من نور الشمس ، فإذا غابت الشمس جاء الليل فبان بذلك أن النهار - وهو النور - وارد على الظلمة التي هي الليل . وإذا لم يرد نور الشمس كان الليل ثابتا ، فدل ذلك على أن الليل هو الأول ، وهذا قول ابن عباس .

وقال آخرون : كان النهار قبل الليل . واستدلوا بأن الله تعالى كان ولا شيء معه ، ولا ليل ولا نهار ، وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه حتى خلق الليل . قال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ، ولا نهار . نور السماوات من نور وجهه .

قال أبو جعفر : والأول أولى بالصواب للعلة المذكورة أولا ، ولقوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها فبدأ بالليل قبل النهار .

قال عبيد بن عمير الحارثي : كنت عند علي فسأله ابن الكواء عن السواد الذي في القمر ، فقال : ذلك آية محيت ، وقال ابن عباس مثله ، وكذلك قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما ، لذلك خلقهما الله تعالى الشمس أنور من القمر .

قلت : وروى أبو جعفر هاهنا حديثا طويلا في عدة أوراق عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلق الشمس ، والقمر ، وسيرهما ، فإنهما على عجلتين ، لكل عجلة ثلاثمائة وستون عروة ، يجرها بعددها من الملائكة ، وإنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض ، فذلك كسوفهما ، ثم إن الملائكة يخرجونها فذلك تجليتهما من الكسوف . وذكر الكواكب ، وسيرها ، وطلوع الشمس من مغربها . ثم ذكر مدينة [ ص: 23 ] بالمغرب تسمى جابرس وأخرى بالمشرق تسمى جابلق ، ولكل واحدة منهما عشرة آلاف باب ، يحرس كل باب منها عشرة آلاف رجل ، لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة .

وذكر يأجوج ومأجوج ، ومنسك وثاريس ، إلى أشياء أخر لا حاجة إلى ذكرها ، فأعرضت عنها لمنافاتها العقول . ولو صح إسنادها لذكرناها ، وقلنا به ، ولكن الحديث غير صحيح ، ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف .

وإذا كنا قد بينا مقدار مدة ما بين أول ابتداء الله عز وجل في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعه من سني الدنيا ومدة أزمانها ، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينا أنا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة ، والعاصية ربها والمطيعة ربها ، وأزمان الرسل ، والأنبياء ، وكنا قد أتينا على ذكر ما تصح به التأريخات وتعرف به الأوقات ، وهو الشمس ، والقمر ، فلنذكر الآن أول من أعطاه الله ملكا ، وأنعم عليه فكفر نعمته ، وجحد ربوبيته ، واستكبر ، فسلبه الله نعمته ، وأخزاه ، وأذله ، ثم نتبعه ذكر من استن سنته ، واقتفى أثره وأحل الله به نعمته ، ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها ، ومن الرسل والأنبياء ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية