الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( التغدي الأكل المترادف الذي يقصد به الشبع ) وكذا التعشي ولا بد أن يأكل أكثر من نصف الشبع في غداء وعشاء وسحور ( في وقت خاص وهو ما بعد طلوع الفجر ) وفي البحر عن الخلاصة عند طلوع الشمس قال : وينبغي اعتماده للعرف ، زاد في النهر وأهل مصر يسمونه فطورا إلى ارتفاع الضحى الأكبر فيدخل وقت الغداء فيعمل بعرفهم . قلت : وكذلك أهل الشام ( إلى زوال الشمس ) ثم لا بد أن يكون ( مما يتغدى به ) أهل بلده عادة وغداء كل بلدة ما تعارفه أهلها ، [ ص: 781 ] حتى لو شبع بشرب اللبن يحنث البدوي لا الحضري زيلعي ( والتعشي منه ) أي الزوال : وفي البحر عن الإسبيجابي : وفي عرفنا وقت العشاء بعد صلاة العصر ا هـ . قلت : وهو عرف مصر والشام ( إلى نصف الليل ، والسحور هو الأكل بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر قال إن أكلت أو ) قال إن ( شربت أو لبست ) أو نكحت ونحو ذلك فعبدي حر ( ونوى معينا ) أي خبزا أو لبنا أو قطنا مثلا

( لم يصدق أصلا ) فيحنث بأي شيء أكل أو شرب وقيل يدين كما لو نوى كل الأطعمة أو كل مياه العالم حتى لا يحنث أصلا لنيته محتمل كلامه ( ولو ضم ) لإن أكلت ( طعاما أو ) شربت ( شرابا أو ) لبست [ ص: 782 ] ( ثوبا دين ) إذا قال عنيت شيئا دون شيء لأنه ذكر اللفظ العام القابل للتخصيص لأنه نكرة في سياق الشرط فتعم كالنكرة في النفي ، والأصل أن النية إنما تصح في الملفوظ إلا في ثلاث فيدين في فعل الخروج والمساكنة وتخصيص الجنس كحبشية أو عربية لا الصفة ككوفية أو بصرية فتح .

التالي السابق


مطلب حلف لا يتغدى أو لا يتعشى

( قوله التغدي إلخ ) هذا أولى من قول غيره الغداء والعشاء لأن الغداء والعشاء بفتح أولهما مع المد اسم لما يؤكل في الوقتين ، لا للأكل فيهما والمحلوف عليه الأكل فيهما لا المأكول ، وإن أجاب عنه في الفتح بأنه تساهل معروف المعنى لا يعترض به . ا هـ . ( قوله الأكل المترادف ) فلو أكل لقمتين ثم فصل بزمن يعد فاصلا ثم أكل لقمتين وهكذا لا يكون غداء ط ( قوله الذي يقصد به الشبع ) احترز به عن أكل نحو لقمة ولقمتين أو أكثر ما لم يبلغ نصف الشبع كما في الفتح ، وأما الاحتراز عن نحو اللبن والتمر فسيذكره في قوله مما يتغدى به عادة فافهم ( قوله وكذا التعشي ) ومثله التسحر على الظاهر ط ( قوله أكثر من نصف الشبع ) كذا في البحر عن الزيلعي والظاهر أن المراد به الشبع المعتاد له لا الشرعي كالثلث وظاهره عدم الحنث بأكل نصف الشبع ط ( قوله فيدخل وقت الغداء ) وينتهي إلى العصر لأنه أول وقت العشاء في عرفنا كما يأتي ( قوله إلى زوال الشمس ) غاية لقوله وهو ما بعد طلوع الفجر ، وكان المناسب عدم الفصل بينهما ( قوله وغداء كل بلدة ما تعارفه أهلها ) يغني عنه ما قبله ومثله العشاء [ ص: 781 ] والسحور ط ( قوله حتى لو شبع إلخ ) قال الكرخي : إذا حلف لا يتغدى فأكل تمرا أو أرزا أو غيره حتى شبع لا يحنث ، ولا يكون غداء حتى يأكل الخبز ، وكذلك إن أكل لحما بغير خبز اعتبارا للعرف كذا في الاختيار ونحوه في البحر والفتح والظاهر أنه مبني على أن المراد بالغداء ما يتغدى به في العرف غالبا ، وهذا وإن كان يتغدى به في العرف لكنه قليل ، ونظيره ما مر في الإدام . وفي البحر عن المحيط : لو تغدى بالعنب لا يحنث إلا أن يكون من أهل الرستاق ممن عادتهم التغدي به في وقته ( قوله بعد صلاة العصر ) والظاهر أنه ينتهي إلى دخول وقت السحور ( قوله والسحور ) بالفتح ما يؤكل وبالضم فعل الفاعل مصباح ، والمناسب هنا ضبطه بالضم لقوله هو الأكل وليناسب التعبير بالتغدي والتعشي . قال في الفتح : لما كان السحور ما يؤكل في السحر والسحر من الثلث الأخير سمي ما يؤكل في النصف الثاني لقربه من الثلث الأخير سحورا بالفتح والأكل فيه التسحر . ا هـ . قلت : في زماننا لا يطلقون السحور إلا على ما يؤكل ليلا لأجل الصوم .

مطلب قال إن أكلت أو شربت ونوى معينا لم يصح

( قوله ونحو ذلك ) كما لو حلف لا يركب أو لا يغتسل ، أو لا ينكح ، أو لا يسكن دار فلان ، أو لا يتزوج امرأة ونوى الخيل أو من جنابة امرأة معينة ، أو بالإجارة أو الإعارة أو كوفية لم تصح نيته أصلا نهر ( قوله أي خبزا أو لبنا إلخ ) لف ونشر مرتب ، وأفاد أنه ليس المراد بالمعين الفرد الشخصي ، بل ما يعم النوعي ( قوله لم يصدق أصلا ) أي لا قضاء ولا ديانة لأن النية إنما تعمل في الملفوظ لتعين بعض محتملاته وما نواه غير مذكور نصا فلم تصادف النية محلها فلغت نهر ( قوله وقيل يدين ) هو رواية عن الثاني ، واختاره الخصاف لأنه مذكور تقديرا وإن لم يذكر تنصيصا . وأجيب بأن تقديره لضرورة اقتضاء الأكل مأكولا وكذا اللبس والشراب ، والمقتضى لا عموم له كذا قالوا . والتحقيق أن هذا ليس من المقتضى لأنه ما يقدر لتصحيح المنطوق بأن يكون الكلام كذبا ظاهرا كرفع الخطإ والنسيان ، أو غير صحيح شرعا كأعتق عبدك عني ، وقولك لا آكل خال عن ذلك ، نعم المفعول أعني المأكول من ضروريات وجود الأكل ومثله ليس من المقتضى بل من حذف المفعول اقتصارا وإلا لزم أن يكون كل كلام مقتضى إذ لا بد أن يستدعي مكانا وزمانا ، وحيث كان هذا المصدر ضروريا للفعل لا يصح تخصيصه وإن عم بوقوعه في سياق النفي فإن من ضرورة ثبوت الفعل في النفي ثبوت المصدر العام بدون ثبوت التصرف فيه بالتخصيص فإن عمومه ضرورة تحقق الفعل في النفي فلا يقبل التخصيص ، بخلاف إن أكلت أكلا فإن الاسم المذكور صريحا فيقبله وتمامه في الفتح ( قوله كما لو نوى إلخ ) أي كما يصدق ديانة لو نوى كل الأطعمة أو المياه حتى لو أكل طعاما أو طعامين أو أكثر لا يحنث ، وكذا لو شرب مدة عمره لأنه لم يأكل الكل ولم يشرب الكل .

[ ص: 782 ] ثم اعلم أنه لا محل لذكر هذه المسألة هنا بل محلها بعد قوله : ولو ضم طعاما إلخ كما فعله في البحر : أي فيما إذا صرح بالمفعول كما نبه عليه ويدل عليه التعليل بقوله لنيته محتمل كلامه لأنه إذا لم يصرح به ويكون معناه لا أوجد أكلا أو شربا أو لبسا فيحنث بكل أكل وجد ، ولذا لم تصح نيته المعين منه بخلاف ما إذا صرح به . لأن طعاما المذكور يحتمل البعض والكل فأيهما نوى صح ، ولذا نقل في البحر عن المحيط أنه يصدق قضاء أيضا وعلله في البدائع بأنه نوى حقيقة كلامه ، ثم نقل عن الكشف أنه إنما يصدق ديانة فقط ، وقال : لأنه خلاف الظاهر لأن الإنسان إنما يمنع نفسه عما يقدر عليه والكل ليس في وسعه وفيه تخفيف عليه أيضا وتمامه فيه .

أقول : ويظهر لي ترجيح الأول لأنه إذا نوى البعض إنما يصدق ديانة فقط كما يأتي وهذا لا نزاع فيه ، ويلزم منه أن يصدق قضاء وديانة إذا نوى الكل لأن عدم تصديقه في الأول قضاء لأنه خلاف ظاهر اللفظ ، فيكون الظاهر العموم وإلا لزم تصديقه قضاء في نية الخصوص . وفي تلخيص الجامع : إن كلمت آدم أو الرجال أو النساء حنث بالفرد إلا أن ينوي الكل ، قال شارحه : فيصدق ديانة وقضاء ولا يحنث أبدا لأن الصرف إلى الأدنى عند الإطلاق لتصحيح كلامه ، فإذا نوى الكل فقد نوى حقيقة كلامه فيصدق ، وقيل : لا يصدق قضاء لأن الحقيقة مهجورة . ا هـ . وسيأتي هذا آخر الباب ، وتعبيره عن الثاني بقيل يفيد ضعفه وترجيح الأول كما قلنا فافهم ( قوله دين ) أي يوكل إلى دينه فيما بينه وبين ربه تعالى وأما القاضي فلا يصدقه لأنه خلاف الظاهر ، وقدمنا في الطلاق أن المرأة كالقاضي ( قوله لأنه نكرة في سياق الشرط فتعم ) لأن الحلف في الشرط المثبت يكون على نفيه ، فقوله إن لبست ثوبا في معنى لا ألبس ثوبا ( قوله إلا في ثلاث فيدين إلخ ) يعني لو قال : إن خرجت فعبدي حر ونوى السفر مثلا أو إن ساكنت فلانا فعبدي حر ونوى المساكنة في بيت واحد يدين لأن الخروج في نفسه متنوع إلى سفر وغيره حتى اختلفت أحكامها ، فقبلت إرادة أحد نوعيه ، وكذا المساكنة متنوعة إلى كاملة هي المساكنة في بيت واحد ومطلقة وهي ما تكون في دار ، فإرادة المساكنة في بيت إرادة أخص أنواعها كما في الفتح .

وحاصله : أن النية صحت هنا لكون المصدر متنوعا لا باعتبار عمومه فهو تخصيص أحد نوعي الجنس ، وزاد في تلخيص الجامع إن اشتريت ونوى الشراء لنفسه : أي فتصح نيته ديانة ، وإن لم يذكر المفعول لتنوع الشراء ، فإنه تارة يكون لنفسه . وتارة يكون لموكله ولذا رتب على الأول الملك ، وعلى الثاني الملك للموكل وهذا بخلاف ما إذا نوى الخروج لبغداد أو المساكنة بالإجارة أو الشراء لعبد ، فإن الفعل فيه غير متنوع ، فلم يصح تخصيصه بالنية بدون ذكر كما في شرح التلخيص .

قلت : ونظير ذلك ما إذا قال أنت بائن ونوى الثلاث أو الواحدة يصح بخلاف نية الثنتين لأن البينونة نوعان غليظة وخفيفة . فتصح نية إحداهما بخلاف الثنتين لأنه عدد محض كما مر تقريره في محله ، لكنه يصدق في نيته البينونة قضاء . قال في الفتح : وكذا أو حلف لا يتزوج امرأة ونوى كوفية أو بصرية لا يصح لأنه تخصيص الصفة ، ولو نوى حبشية أو عربية صحت ديانة لأنه تخصيص الجنس ، ثم قال : وكون إرادة نوع ليس تخصيا للعام مما يقبل المنع لأنه لا يخرج من قصر عام على بعض متناولاته . ا هـ .

[ ص: 783 ] أقول : قد يقال لا عموم هنا ولا تخصيص لعام ، وإنما هو إرادة أحد محتملي اللفظ المشترك أو أحد نوعي الجنس كما في التوضيح والتلويح ، والأول أولى وبيانه أن الخروج مشترك بين السفر والانفصال من داخل إلى خارج وكذا المساكنة مشتركة بين الكاملة وهي ما تكون في بيت واحد ومطلقة وهي ما تكون في الدار مطلقا ، وكذا الشراء فإنه يحتمل الخاص وهو ما يكون له والمطلق ، ولكن لما كان المتبادر عرفا هو المعنى الثاني في المسائل الثلاث صدق ديانة فقط في نية المعنى الأول منها ، ولا يصدقه القاضي لأنه خلاف الظاهر ، وله نظائر في تلخيص الجامع لو قال : إن جامعتك أو باضعتك فهو على الجماع في الفرج ، لأنه المتفاهم عرفا إلا أن ينوي ما دونه للاحتمال لكنه لا يصرف عن الظاهر في القضاء فيحنث بهما أي إذا نوى ما دونه يحنث به عملا بإقراره على نفسه بالحنث ، ويحنث بالجماع في الفرج لتبادره ، وكذا إن وطئتك فعبدي حر إلا أن يعني الوطء بالقدم ، وفي إن أتيتك ينوي لاستواء احتمالي الجماع والزيارة ، لكن لو نوى الزيارة حنث بالجماع لأنه زيارة وزيادة . ا هـ . وبما قررناه : ظهر الفرق بين هذه المسائل المستثناة وبين ما مر في لا آكل ونحوه فإن حقيقة الأكل فيه واحدة فلم تصح نية التخصيص ، بخلاف ما إذا صرح بالمفعول فإنه لفظ صريح فيصح تخصيصه ، لكن نية التخصيص إنما تصح فيما كان من أفراد ذلك العام وهو المأكولات كالخبز ونحوه دون ما كان من متعلقاته الضرورية كالزمان والمكان والوصف .

فلو نوى في زمان كذا لم يصح ومثله لا أتزوج امرأة ونوى حبشية أو عربية فإنها بعض أفراد العام لأن الإنسان أنواع : حبشي ، وعربي ، ورومي ، باعتبار أصوله الذين ينسب إليهم بخلاف كوفية أو بصرية لأنه وصف ضروري راجع إلى تخصيص المكان وهو غير ملفوظ صريحا فلا تصح نيته كبقية الصفات الضرورية ومثله ما في البحر عن البدائع : لا يكلم هذا الرجل ونوى ما دام قائما لم يصح بخلاف ، لا يكلم هذا القائم ونوى ذلك يدين لتخصيصه الملفوظ ، وكذا لأضربنه خمسين ونوى سوطا به منه فإنه يبر بأي شيء ضربه وكذا لا أتزوج امرأة أبوها يعمل كذا وكذا فهو باطل ا هـ .

وظهر بما قرره أيضا أن الاستثناء في المسائل الثلاث في غير محله لأن النية إنما وجدت في الملفوظ أيضا لأن الفعل فيها صار مشتركا بواسطة اشتراك المصدر تأمل . على أن لا أتزوج امرأة صرح فيه بالمفعول ، فهو مثل لا آكل طعاما ولعله ذكره لينبه على أنه إنما يصح فيه تخصيص الجنس فقط دون الوصف ، لكن فيه أن لا آكل طعاما كذلك بدليل أنه لو نوى لقمة أو لقمتين لم يصح على أنه يخالفه ما يذكره قريبا فيما لو قال نويت من بلد كذا فإنه يصدق ديانة لا قضاء ، ولعل في المسألة قولين يدل عليه أنه في التتارخانية قال وروي عن محمد فيمن قال لا أتزوج امرأة ونوى كوفية أو بصرية إلخ وذكر فيها أيضا إن تزوجت فعبدي حر وقال عنيت فلانة وامرأة من أهل الكوفة لا يصح ولو قال : إن تزوجت امرأة وقال عنيت فلانة يصح ا هـ وهذا ظاهر لأنه في الأول لم يذكر المفعول .

ثم اعلم أنه يرد ما مر في يمين الفور حيث خصص بما دلت عليه القرينة كالغداء المدعو إليه ولعل وجهه أن العرف جعل اللفظ كالمصرح به ولا سيما إذا كان جوابا لكلام قبله لأن السؤال معاد فيه فلم يكن تخصيصا للعام غير المذكور بالنية ، وهذا الموضع من مشكلات مسائل الأيمان ولم أجد من أعطاه حقه من البيان وما ذكر به هو غاية ما ظهر لفهمي القاصر وفكري الفاتر .




الخدمات العلمية