في هذه السنة بويع مروان بن الحكم بالشام .
وكان السبب فيها أن ابن الزبير لما بويع له بالخلافة ولى عبيدة بن الزبير المدينة ، وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر ، وأخرج بني أمية إلى ومروان بن الحكم الشام ، يومئذ ابن ثمان وعشرين سنة ، فلما قدم وعبد الملك بن مروان الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير ، وقال له ولبني أمية : نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم فتكون فتنة عمياء صماء . وكان [ ص: 238 ] من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة ، فقدم ابن زياد من العراق ، وبلغه ما يريد مروان أن يفعل ، فقال له : قد استحييت لك من ذلك ، أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فتبايعه ، يعني ابن الزبير ، لأنه كان يكنى بابنه خبيب ! فقال : ما فات شيء بعد ، فقام معه بنو أمية ومواليهم وتجمع إليه أهل اليمن فسار إلى دمشق وهو يقول : ما فات شيء بعد ، فقدم دمشق قد بايعه أهلها على أن يصلي بهم ويقيم له أمرهم حتى يجتمع الناس ، وهو يدعو إلى والضحاك بن قيس ابن الزبير سرا .
وكان زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير ، والنعمان بن بشير بحمص يبايع له أيضا ، وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملا لمعاوية ولابنه يزيد وهو يريد بني أمية ، فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين ، فثار روح بن زنباع الجذامي ناتل بن قيس بروح فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير .
وكان حسان في الأردن يدعو إلى بني أمية ، فقال لأهل الأردن : ما شهادتكم على ابن الزبير وقتلى الحرة ؟ قال : نشهد أنه منافق وأن قتلى الحرة في النار .
قال : فما شهادتكم على يزيد وقتلاكم بالحرة ؟ قالوا : نشهد أنه على الحق وأن قتلانا في الجنة .
قال : فأنا أشهد لئن كان يزيد وشيعته على حق إنهم اليوم على حق ، ولئن كان ابن الزبير وشيعته على باطل إنهم اليوم عليه .
قالوا له : صدقت ، نحن نبايعك على أن نقاتل من خالفك وأطاع ابن الزبير على أن تجنبنا هذين الغلامين ، يعنون ابني يزيد عبد الله وخالدا ، فإنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي .
وكتب حسان إلى الضحاك كتابا يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين ، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس ، وكتب كتابا آخر وسلمه إلى الرسول ، واسمه باغضة ، وقال له : إن قرأ كتابي على الناس وإلا فاقرأ هذا الكتاب عليهم .
وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك ، فقدم باغضة فدفع كتاب الضحاك إليه وكتاب بني أمية إليهم ، فلما كانت الجمعة صعد الضحاك المنبر ، فقال له باغضة ليقرأ كتاب حسان على الناس .
فقال له الضحاك : اجلس ، فقام [ ص: 239 ] إليه الثانية والثالثة وهو يقول له : اجلس ، فأخرج باغضة الكتاب وقرأه على الناس ، فقال : صدق الوليد بن عتبة بن أبي سفيان حسان وكذب ابن الزبير ، وشتمه .
وقيل : كان الوليد قد مات بعد موت معاوية بن يزيد وقام يزيد بن أبي الغمس الغساني وسفيان بن الأبرد الكلبي فصدقا حسان وشتما ابن الزبير ، وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وأثنى على ابن الزبير ، فأمر الضحاك بالوليد ويزيد بن أبي الغمس فحبسوا ، وجال الناس ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه ومزقوا ثيابه ، وقام خالد بن يزيد فصعد مرقاتين من المنبر وسكن الناس ، ونزل الضحاك فصلى الجمعة ودخل القصر .
فجاءت كلب فأخرجوا سفيان ، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد ، وجاء خالد بن يزيد وأخوه عبد الله معهما أخوالهما من كلب فأخرجوا ، وكان الوليد بن عتبة أهل الشام يسمون ذلك اليوم يوم جيرون الأول .
ثم خرج الضحاك إلى المسجد فجلس فيه وذكر فسبه ، فقام إليه شاب من يزيد بن معاوية كلب فضربه بعصا ، فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا ، قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك ، وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد لأنه ابن أختهم .
ودخل الضحاك دار الإمارة ولم يخرج من الغد إلى صلاة الفجر ، وبعث إلى بني أمية فاعتذر إليهم وأنه لا يريد ما يكرهون ، وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية ويسيرون هم من دمشق فيجتمعون معه بالجابية ويبايعون لرجل من بني أمية ، فرضوا وكتبوا إلى حسان ، وسار الضحاك وبنو أمية نحو الجابية ، فأتاه ثور بن معن السلمي فقال : دعوتنا إلى ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخته خالد بن يزيد ! قال الضحاك : فما الرأي ؟ قال : الرأي أن تظهر ما كنا نكتم وتدعو إلى ابن الزبير .
فرجع الضحاك ومن معه من الناس فنزل بمرج راهط ودمشق بيده ، واجتمع بنو أمية وحسان وغيرهم بالجابية ، فكان حسان يصلي بهم أربعين يوما والناس يتشاورون ، وكان مالك بن هبيرة السكوني يهوى خالد بن يزيد ، ( والحصين بن نمير يميل إلى مروان ، فقال مالك للحصين : هل نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وقد عرفت منزلتنا ) [ ص: 240 ] من أبيه فإنه يحملنا على رقاب العرب غدا ؟ يعني خالدا .
فقال الحصين : لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي .
فقال مالك : والله لئن استخلفت مروان ليحسدك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها ، إن مروان أبو عشيرة وأخو عشيرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم ، ولكن عليكم بابن أختكم ، فقال الحصين : إني رأيت في المنام قنديلا معلقا من السماء وأن من يلي الخلافة يتناوله فلم ينله أحد إلا مروان ، والله لنستخلفنه .
وقام فقال : أيها الناس إنكم تذكرون روح بن زنباع الجذامي عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه في الإسلام ، وهو كما تذكرون ، ولكنه ضعيف ، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف ، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون أنه ابن حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه ابن ذات النطاقين ، ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين ، وليس المنافق بصاحب أمة محمد ، وأما فوالله ما كان في الإسلام صدع إلا كان ممن يشعبه ، وهو الذي قاتل مروان بن الحكم يوم الجمل ، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير ، يعني بالكبير علي بن أبي طالب مروان ، وبالصغير خالد بن يزيد .
فاجتمع رأيهم على البيعة ، ثم لمروان بن الحكم لخالد بن يزيد ، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد ، على أن إمرة دمشق لعمرو وإمرة حمص لخالد بن يزيد .
فدعا حسان خالدا فقال : يا بن أختي ؛ إن الناس قد أبوك لحداثة سنك وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك وما أبايع مروان إلا نظرا لكم .
فقال خالد : بل عجزت عنا .
قال : والله ما عجزت عنكم ولكن الرأي لك ما رأيت .
ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين ، وقال مروان حين بويع له :
لما رأيت الأمر أمرا نهبا يسرت غسان لهم وكلبا والسكسكيين رجالا غلبا
وطيئا تأباه إلا ضربا [ ص: 241 ] والقين تمشي في الحديد نكبا
ومن تنوخ مشمخرا صعبا لا يأخذون الملك إلا غصبا
فإن دنت قيس فقل لا قربا