الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 267 ] ( قال ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة إلا أن يسمي جملة قفزانها وقالا يجوز في الوجهين ) له أنه تعذر الصرف إلى الكل لجهالة المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل وهو معلوم ، وإلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان أو بالكيل في المجلس ، وصار هذا كما لو قال لفلان علي كل درهم فعليه درهم واحد بالإجماع . [ ص: 268 ] ولهما أن الجهالة بيدهما إزالتها ومثلها غير مانع ، وكما إذا باع عبدا من عبدين على أن المشتري بالخيار . ثم إذا جاز في قفيز واحد عند أبي حنيفة فللمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه ، [ ص: 269 ] وكذا إذا كيل في المجلس أو سمى جملة قفزانها ; لأنه علم ذلك الآن فله الخيار ، كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع

التالي السابق


( قوله ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة رحمه الله ) يعني أن موجب هذا اللفظ والإشارة إيجاب البيع في واحد عنده ، ويتوقف في الباقي إلى تسمية الكل في المجلس أو كيله فيه فيثبت حينئذ على وجه يكون الخيار للمشتري ، فإن رضي هل يلزم البيع على البائع وإن لم يرض أو يتوقف على قبوله أيضا ، روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلا بتراضيهما ، وروى محمد خلافه حتى لو فسخ البائع البيع بعد الكيل ورضي المشتري بأخذ الكل لا يعمل فسخه ، وقال أبو يوسف ومحمد : صح البيع في الكل وهو قول الأئمة الثلاثة ، ثم إذا جاز في قفيز واحد فللمشتري فيه الخيار لتفرق الصفقة عليه دون البائع ; لأن التفريق جاء من قبله بسبب عدم تسميته جملة القفزان ( وله أنه تعذر صرف البيع إلى الكل لجهالة المبيع والثمن ) ولا جهالة في القفيز فلزم فيه ، وإذا زالت بالتسمية أو الكيل في المجلس يثبت الخيار كما إذا ارتفعت بعد العقد بالرؤية إذ المؤثر [ ص: 268 ] في الأصل ارتفاع الجهالة بعد لفظ العقد وكونه بالرؤية ملغى ، بخلاف ما إذا علم ذلك بعد المجلس لتقرر المفسد وما في المحيط عن بعض المشايخ أن عنده يصح في الكل ، وإن علم بعد المجلس بعيد ; لأن ما في المجلس كالثابت في صلب العقد ، بخلاف ما بعده ، ولا يلزم إسقاط خيار أربعة أيام بعد المجلس ، وكذا زوال جهالة الأجل المجهول بعده حيث يجوز العقد بزوال المفسد بعد المجلس ; لأن المفسد فيهما لم يتمكن في صلب العقد فلا يتقيد رفع المفسد بالمجلس ، وهذا لأن أثر الفساد فيهما لا يظهر في الحال بل يظهر عند دخول اليوم الرابع وامتداد الأجل .

وأما ما أورد من أن الجهالة وإن كانت ثابتة لكنها لا تفضي إلى المنازعة ; لأن بعد العلم بأن كل قفيز بدرهم لا يتفاوت الحال بين كون القفزان كثيرا أو قليلا ، فجوابه أن المفسد هنا جهالة الثمن كمية خاصة وقدرا لعدم الإشارة ولا معرف شرعا له غير ذلك . وأما الجواب بمنع كونها غير مفضية إلى المنازعة ; لأن البائع قد يطلب المشتري بتسليمه الثمن ، وهو لا يقدر على ذلك لعدم معرفة قدره فيتنازعان فتهافت ظاهر ، لأنه لا يتصور أن يطالبه إلا بعد أن يكيله ليعرف القدر الذي يطالب به ، إذ لا يمكن أن يطالبه إلا بكمية خاصة مشار إليها أو مضبوطة الوزن ، وحينئذ يعلمها المشتري فيقدر على التسليم ، ولو امتنع بعد هذا التقدير كان مطلا للمنازعة المفسدة ( ولهما أن هذه جهالة بيدهما إزالتها ) بأن يكيلا في المجلس ، والجهالة التي هي كذلك لا تفضي إلى المنازعة كبيع عبد من عبدين أو ثلاثة على أن [ ص: 269 ] المشتري بالخيار يأخذ أيهما شاء .

وقد أورد عليه نقض إجمالي لو صح ما ذكر من أن الجهالة التي بيدهما إزالتها غير مانعة من الصحة لزم لصحة البيع بالرقم عندهما ، وأنه يجوز بيع عبد من أربعة ، على أن المشتري مخير في تعيينه ، وأن يجوز البيع بأي ثمن شاء ، لكن البيع في الكل باطل . أجيب بأن البيع بالرقم تمكنت الجهالة به في صلب العقد وهو جهالة الثمن بسبب الرقم ، وصار بمنزلة القمار للخطر الذي فيه أنه سيظهر كذا وكذا ، وجوازه إذا علم في المجلس بعقد آخر هو التعاطي كما قاله الحلواني ، بخلاف ما نحن فيه ; لأنه كما يعلم بكيل البيع يعلم بكيل المشتري ، ومثل هذا القول البيع بأي ثمن شاء ، ومثله في أحد العبيد الأربعة في جانب المبيع ، فإن البيع لا ينعقد في غير معين فكان بيعا بلا مبيع ، وكان مقتضى هذا أن لا يجوز في عبد من ثلاثة إلا أنه يثبت بدلالة نص شرط الخيار ثلاثة أيام [ ص: 270 ] ولا يخفى أن كل أجوبة هذه النقوض تصلح أدلة لأبي حنيفة ، فإنها تضمنت تسليم أن الجهالة وإن كانت بيدهما إزالتها بعد كونها في صلب العقد ، وهي أن تكون في الثمن كالبيع بالرقم وبأي ثمن شاء ، أو في المبيع كبيع عبد من أربعة تمنع جواز البيع ، وجهالة الثمن على وجه يشبه القمار وعدم العلم به مع إمكان إزالتها ثابت في حمل النزاع إذ جاز أن يظهر كونه مائة أو خمسين إلا بكيل أحدهما ، وكون ذلك بكيل كل منهما ، وفي الرقم يظهر بالبائع فقط لا أثر له في دفع منع الحظر والتمكن في صلب العقد وهو المفسد

وإذا فسد البيع في عبد من أربعة ، والجهالة في مضبوط لانحصارها في احتمالات أربعة لا تتعداها ، فلأن تفسد في صبرة لا تقف الاحتمالات في خصوص الثمن على كونه أربع إمكانات أو عشرة أولى ، بل ويسجل عليهما ببطلان قياسهما على بيع عبد من عبدين إذ ظهر من الجواب أنه معدول عن القياس ولذا امتنع في أربعة أعبد ، وحينئذ ترجح قول أبي حنيفة ، وظهر أن كون العاقدين بيدهما إزالة جهالة صلب العقد من الثمن ، والمبيع لا يوجب صحة البيع قبل إزالتها بدلالة الإجماع على عدم الصحة في الصور المذكورة مع إمكان إزالتها فيها ، وغايته إذا أزيلت في المجلس وهما على رضاهما ثبت بعقد التراضي والمعاطاة لا بعين الأول كما ذكر في الرقم ، بل ولهذه الفروع المذكورة أمثال يطول عدها يبطل البيع فيها لجهالة في الثمن أو المبيع مع إمكان إزالة أحد المتعاقدين لها ، وتأخير صاحب الهداية دليلهما ظاهر في ترجيحه قولهما وهو ممنوع ، وأما ما يحمل قول أبي حنيفة عليه مما .

ذكر في المبسوط من أن الأصل عنده أنه متى أضيف كلمة كل إلى ما لا تعلم نهايته فإنما يتناول أدناه لصيانته عن الإلغاء كالإقرار بأن عليه كل درهم إنما يلزمه درهم واحد ، وكذا إجارة كل شهر بدرهم تلزم في شهر واحد فلا حاجة له هنا ; لأنه لو منع صحة هذا الأصل كان إثباته بعين ما ذكر في تعليل المسألة من ثبوت الجهالة في المجموع والتيقن في الواحد فهو نفسه أصل هذا الأصل . [ فرع ]

اشترى طعاما بغير جنسه خارج المصر وشرط أن يوفيه في منزل من المصر فالعقد فاسد ; لأن المشتري يملكه بنفس العقد ، فإذا اشترط لنفسه منفعة الحمل فسد ، ولو كان في المصر وشرط أن يحمله إلى منزله فهو فاسد ، ولو عبر بقوله بشرط أن يوفيه في منزله ففي القياس فاسد وهو قول محمد . واستحسن أبو حنيفة وأبو يوسف جوازه بالعرف ، فإن الإنسان يشتري الحطب والشعير على الدابة في المصر ولا يكتري دابة أخرى يحمله عليها بل البائع هو يحمله بخلافه خارج المصر ، وبعض المشايخ لم يفرقوا بين لفظ الحمل والإيفاء في الاستحسان ; لأن المراد منهما واحد ، واختار شمس الأئمة الفرق فإن الإيفاء من مقتضيات العقد فشرطه ملائم بخلاف الحمل




الخدمات العلمية