الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يفرق بينه وبين امرأته ) وقال مالك : إذا مضى أربع سنين يفرق القاضي بينه وبين امرأته وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت لأن عمر رضي الله عنه هكذا قضى في الذي استهواه الجن بالمدينة وكفى [ ص: 146 ] به إماما ، ولأنه منع حقها بالغيبة فيفرق القاضي بينهما بعد مضي مدة اعتبارا بالإيلاء والعنة ، وبعد هذا الاعتبار أخذ المقدار منهما الأربع من الإيلاء والسنين من العنة عملا بالشبهين . ولنا قوله { صلى الله عليه وسلم في امرأة المفقود أنها امرأته حتى يأتيها البيان } .

وقول علي رضي الله عنه فيها : هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق [ ص: 147 ] خرج بيانا للبيان المذكور في المرفوع ، ولأن النكاح عرف ثبوته والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك ، وعمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي رضي الله عنه ولا معتبر بالإيلاء لأنه كان طلاقا معجلا فاعتبر في الشرع مؤجلا فكان موجبا للفرقة ، ولا بالعنة لأن الغيبة تعقب الأودة ، والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة .

التالي السابق


( قوله ولا يفرق بينه وبين امرأته ، وقال مالك : إذا مضى أربع سنين يفرق القاضي بينه وبينها وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت ، لأن عمر رضي الله عنه هكذا قضى في الذي استهوته الجن بالمدينة ) [ ص: 146 ] ولأنه منع حقها بالغيبة ) وإن كان عن غير قصد منه ( فيفرق بينهما القاضي بعد مضي مدة اعتبارا بالإيلاء والعنة ) فإن يفرق بينهما فيهما بعد مدة كذلك ، وهذا منه في الإيلاء بناء على أنه لا يوجب الفرقة بمجرد مضي المدة بل بتفريق القاضي بعدها ، وبعد هذا الاعتبار أخذ في المدة الأربع من الإيلاء والسنين من العنة بجامع دفع الضرر عنها ( عملا بالشبهين ) وحديث الذي أخذته الجن رواه ابن أبي شيبة : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة : أن رجلا انتسفته الجن على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأتت امرأته عمر فأمرها أن تتربص أربع سنين ، ثم أمر وليه بعد أربع سنين أن يطلقها ، ثم أمرها أن تعتد فإذا انقضت عدتها تزوجت ، فإن جاء زوجها خير بين امرأته والصداق .

وأخرج عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن خباب عن مجاهد عن الفقيد الذي فقد قال : دخلت الشعب فاستهوتني الجن ، فمكثت أربع سنين ، ثم أتت امرأتي عمر الحديث بمعنى الأول . وأخرجه عبد الرزاق من طريق آخر وفيه : فقال له عمر لما جاء : إن شئت رددنا إليك امرأتك وإن شئت زوجناك غيرها ، قال : بل زوجني غيرها ، ثم جعل عمر يسأله عن الجن وهو يخبره .

ورواه الدارقطني وفيه : ثم أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا . وروى مالك في الموطإ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا ثم تحل . وأسند ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قالا في امرأة المفقود : تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا .

وأسند ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد : تذاكر ابن عمر وابن عباس المفقود فقالا : تتربص امرأته أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تتربص أربعة أشهر وعشرا .

قال المصنف ( ولنا { قوله صلى الله عليه وسلم في امرأة المفقود إنها امرأته حتى يأتيها البيان } ) أخرجه الدارقطني في سننه عن سوار بن مصعب : حدثنا محمد بن شرحبيل الهمداني عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان } وفي بعض نسخه " حتى يأتيها الخبر " وهو مضعف بمحمد بن شرحبيل . قال ابن أبي حاتم عن أبيه : إنه يروي عن المغيرة مناكير أباطيل . وقال ابن القطان : وسوار بن مصعب . أشهر في المتروكين منه .

ثم عارض المصنف بقول علي قول عمر ، وهو ما روى عبد الرزاق : أخبرنا محمد بن عبد الله العزرمي عن الحكم بن عتيبة أن عليا رضي الله عنه قال في امرأة المفقود : هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق . أنبأنا معمر عن ابن أبي ليلى عن الحكم أن عليا مثله . وقال : أخبرنا ابن جريج [ ص: 147 ] قال : بلغني أن ابن مسعود وافق عليا على أنها تنتظر أبدا .

وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي قلابة وجابر بن يزيد والشعبي والنخعي كلهم قالوا : ليس لها أن تتزوج حتى يستبين موته . وقوله ولأن النكاح إلخ الحاصل أن المسألة مختلفة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين . فذهب عمر إلى ما تقدم . وذهب علي رضي الله عنه إلى أنها امرأته حتى يأتيها البيان ، والشأن في الترجيح والحديث الضعيف يصلح مرجحا لا مثبتا بالأصالة ، وما ذكر من موافقته ابن مسعود مرجح آخر .

ثم شرع المصنف في مرجح آخر فقال ( ولأن النكاح عرف ثبوته والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك ) وذكر أن عمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي . ذكره ابن أبي ليلى قال : ثلاث قضيات رجع فيها عمر إلى قول علي : امرأة المفقود ، وامرأة أبي كنف ، والمرأة التي تزوجت في عدتها .

وقولنا في الثلاث قول علي رضي الله عنه ، فامرأة المفقود عرفت ، وأما امرأة أبي كنف فكان أبو كنف طلقها ثم راجعها ولم يعلمها حتى غاب ثم قدم فوجدها قد تزوجت ، فأتى عمر رضي الله عنه فقص عليه القصة فقال له : إن لم يكن دخل بها فأنت أحق بها ، وإن كان دخل بها فليس لك عليها سبيل ، فقدم على أهلها وقد وضعت القصة على رأسها فقال لهم : إن لي إليها حاجة فخلوا بيني وبينها ، فوقع عليها وبات عندها ثم غدا إلى الأمير بكتاب عمر فعرفوا أنه جاء بأمر بين ، وهذا أعني عدم ثبوت الرجعة في حقها إذا لم تعلم بها حتى إذا اعتدت وتزوجت ودخل بها الثاني لم يبق للأول عليها سبيل لدفع الضرر عنها ثم رجع إلى قول علي أن مراجعته إياها صحيح وهي منكوحته دخل بها الثاني أو لا .

وأما المرأة التي تزوجت في عدتها فالمرأة التي ينعى إليها زوجها فتعتد وتتزوج ، وكان مذهبه فيها إذا أتى زوجها حيا يخيره بين أن ترد عليه وبين المهر ، وقد صح رجوعه إلى قول علي وهو أن يفرق بينها وبين الثاني ولها المهر عليه بما استحل من فرجها ، وترد إلى الأول ولا يقربها حتى تنقضي عدتها من ذلك .

قال ( ولا معتبر بالإيلاء لأنه كان طلاقا معجلا في الجاهلية فاعتبر في الشرع مؤجلا ) وهذا على رأينا بأن الوقوع به عند انقضاء المدة بالإيلاء لا يتوقف على تفريق القاضي . قال ( ولا بالعنة ) لأن في الغالب تعقبها الرجعة ( والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة ) فكان عود المفقود أرجى من زوال العنة بعد مضي السنة فلا يلزم أن يشرع فيه ما شرع فيها




الخدمات العلمية