الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والفصل الخامس : في إحلاف المنكر .

                                                                                                                                            [ ص: 314 ] وإحلافه حق للمدعي ، فلا يجوز للقاضي أن يحلفه إلا بعد مطالبة المدعي بإحلافه .

                                                                                                                                            فإن كان المدعي عالما باستحقاق اليمين عند عدم البينة ، وإلا أعلمه القاضي أنه قد وجب له اليمين عليه ، ليرى رأيه في إحلافه أو تركه .

                                                                                                                                            وإذا كان ذلك إلى خياره فله حالتان :

                                                                                                                                            إحداهما : أن يترك إحلافه ، فلا يسقط حقه من اليمين متى أراد إحلافه بالدعوى المتقدمة . ولو قال قد عفوت عن اليمين وقد أبرأته منها ، سقط حقه منها في هذه الدعوى ولم تسقط الدعوى ، فإن أراد إحلافه من بعد لم يجز أن يحلفه بالدعوى المتقدمة ، ويجوز أن يستأنف الدعوى فيحلفه بالدعوى المستأنفة .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يسأل إحلافه ، فهذا على أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يمسك عن ذكر بينته عند سؤاله إحلاف خصمه ، فلا يذكر أن له بينة ولا أن ليست له بينة ، فليس للقاضي أن يلزمه ذكر البينة ، وعليه أن يحلف له خصمه . فإن أحضر المدعي بعد إحلاف خصمه بينة سمعها ، وحكم عليه بها ، وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء .

                                                                                                                                            وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، وأبو عبيد ، وإسحاق ، وداود : لا يسمعها لانفصال الحكم باليمين ، ولأن سقوط الدعوى بها موجب لسقوط الحق .

                                                                                                                                            وهذا غير صحيح : لأن البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة .

                                                                                                                                            ولأن في البينة إثباتا ، وفي اليمين نفيا ، والإثبات أولى من النفي .

                                                                                                                                            ولأن اليمين تكون مع عدم البينة ، فإذا وجد البينة سقط حكم اليمين .

                                                                                                                                            وليس سقوط الدعوى موجبا لسقوط الحق : لأن الحقوق لا تسقط إلا بقبض أو إبراء وليست اليمين بقبض ولا إبراء .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يذكر المدعي أن له بينة غائبة ، ويسأل إحلاف خصمه ، فعلى القاضي أن يحلفه لأن الغائبة كالمعدومة ؛ لأنه يجوز أن تقدم ولا تقدم : ولأن الحكم إذا وجب تعجيله لم يجز تأخيره .

                                                                                                                                            فإن أحلفه وحضرت البينة جاز أن يسمعها ويحكم بها على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يذكر أنه له بينة حاضرة ، ويسأل إحلافه مع حضور بينته ، ففي جواز إحلافه وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 315 ] أحدهما : وهو قول أبي حنيفة ليس له إحلافه ؛ لأن مقصود المدعي إثبات الحق دون إسقاطه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي يوسف ، والأظهر من مذهب الشافعي له إحلافه لجواز أن يتورع عن اليمين فيعترف ، والإقرار أقوى من البينة .

                                                                                                                                            فإن أحلفه وأراد إقامة البينة سمعت .

                                                                                                                                            ولو أقامها قبل إحلافه وأراد إحلافه بعد إقامتها لم يجز لعدم تأثيرها .

                                                                                                                                            فلو قال المدعي : إن حلف فهو بريء ، فحلف لم يمنع ذلك من سماع البينة ؛ لأن البراءة لا تقع بالصفات .

                                                                                                                                            والضرب الرابع : أن يذكر أن لا بينة له حاضرة ولا غائبة ، ويسأل إحلافه ، فعلى القاضي أن يحلفه .

                                                                                                                                            فإن أحلفه ثم أحضر بعد يمينه بينة ، فقد اختلف أصحابنا في سماعها على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول الأكثرين أنه لا يسمعها منه ؛ لأنه قد أكذبها بإنكارها .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو محكي عن أبي سعيد الإصطخري : أنه يسمعها منه ، لأنه قد لا يعلم أنه له بينة ثم يعلم ، ولو علم لكان ذلك كذبا منه ، ولم يكن تكذيبا للبينة .

                                                                                                                                            فإذا تقرر ما ذكرنا ، ووجب إحلاف المنكر ، فلا يجوز للقاضي أن يحلفه قبل مسألة المدعي .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا هل يجوز للقاضي أن يعرض عليه اليمين قبل مسألة المدعي ؟

                                                                                                                                            على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي حنيفة : لا يجوز كما لم يجز له إحلافه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي العباس بن سريج يجوز أن يعرضها وإن لم يجز أن يحلفه بها ليعلم إقدامه عليها ، فيغطه أو يوقفه عنها فيحذره فإن استمهل المنكر في اليمين ، فإن كان استمهاله ليراجع النظر في حسابه أمهله بحسب ما يمكنه مراجعة الحساب ، وإن استهمله لغير ذلك لم يمهله ولم يحبسه على اليمين ، وكان على ما سنذكره من حكم النكول .

                                                                                                                                            فلو سأل المنكر إحلاف المدعي على ما ادعاه لم يكن له إحلافه : لأن اليمين حق عليه وليست حقا على المدعي ، وقيل : إنما يحلف المدعي بعد نكولك إن اختار .

                                                                                                                                            ولو سأل المدعي تأخير إحلاف المنكر ، ليغلظ عليه اليمين بإحلافه بعد العصر [ ص: 316 ] أو في الجامع ، كان له ملازمة المنكر إن استحق تغليظها ، ولم يكن له ملازمته إن لم يستحق تغليظها .

                                                                                                                                            فلو كانت الدعوى تشتمل على أنواع فأراد المدعي أن يحلفه على أحدها ويتوقف عن إحلافه فيما عداه جاز .

                                                                                                                                            وإن أراد أن يحلفه على كل نوع منها يمينا يمينا ، نظر : فإن فرقها في الدعوى جاز أن تفرق في الأيمان ، وإن جمعها في الدعوى لم يجز أن تفرق في الأيمان .

                                                                                                                                            ولو اشترك في الدعوى اثنان فأنكرهما وجب أن يحلف لكل واحد منهما يمينا ولا يجمع بينهما في اليمين الواحدة : لأن كل واحد منهما مستحق ليمين في حقه ، فلم يجز أن تتبعض يمينه في حقهما .

                                                                                                                                            فإن رضيا أن يحلف لهما يمينا واحدة ففي جوازها لأصحابنا وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لوقوف اليمين على خيار المدعي .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز لما فيه من تبعيض اليمين : فعلى هذا إذا أحلفه لهما يمينا واحدة لم يعتد بها واستأنف إحلافه لكل واحد منهما يمينا مفردة .

                                                                                                                                            وقد أحلف إسماعيل بن إسحاق القاضي يمينا واحدة في حق شريكين ، فأنكره عليه فقهاء عصره ؛ لأنه قد يكون الحق دعوى أحدهما صحيحة ، فإذا أحلف أنه لا حق لهما عليه كان صادقا لأن الحق لهما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية