الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والفصل الرابع في سماع البينة :

                                                                                                                                            والبينة تسمع على المنكر دون المقر .

                                                                                                                                            لأن الإقرار أصل هو أقوى ، والبينة فرع هو أضعف ، ولم يجز ترك الأقوى بالأضعف .

                                                                                                                                            شروط سماع البينة .

                                                                                                                                            ولسماعها أربعة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون موافقة للدعوى .

                                                                                                                                            فإن خالفتها في الجنس لم تسمع .

                                                                                                                                            وإن خالفتها في القدر إلى نقصان حكم في القدر بالبينة دون الدعوى .

                                                                                                                                            وإن خالفتها إلى زيادة حكم في القدر بالدعوى دون البينة ما لم يكن من المدعي تكذيب للبينة في الزيادة ، فإن أكذبها فيه ردت ولم يحكم بها .

                                                                                                                                            والشرط الثاني : أن يتفق شاهدا البينة على الشهادة .

                                                                                                                                            فإن اختلف الشاهدان في الجنس ردت .

                                                                                                                                            وإن اختلفا في القدر تمت في الأقل دون الأكثر .

                                                                                                                                            والشرط الثالث : أن تسمع بعد الدعوى والإنكار .

                                                                                                                                            فإن سمعت قبل الدعوى لم تجز .

                                                                                                                                            وإن سمعت بعد الدعوى وقبل الإنكار ، ففي جوازه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز سماعها لوجودها بعد الطلب .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز سماعها حتى تؤدى بعد الإنكار لتقدمها على زمانها .

                                                                                                                                            والشرط الرابع : أن يكون الأداء بلفظ الشهادة دون الخبر ، فيقول أشهد أنه أقر عندي وأشهدني على نفسه أن عليه لفلان كذا ، وإن كانت الشهادة على إقرار .

                                                                                                                                            فإن قال أشهد أنه أقر عندي ولم يقل وأشهدني على نفسه ، فإن لم يجعل الاسترعاء شرطا في تحمل الإقرار صح هذا الأداء .

                                                                                                                                            وإن جعل الاسترعاء شرطا في تحمله لم يصح .

                                                                                                                                            [ ص: 312 ] وإن كانت الشهادة على غير إقرار كالثمن في بيع حضره أو صداق في نكاح شهده أو قرض شاهده ، ففي لزوم ذكره للسبب في أدائه وجهان ، كقوله في أداء الإقرار وأشهدني بناء على اعتبار الاسترعاء في التحمل .

                                                                                                                                            فأما إن شهد بلفظ الخبر فقال له عليه كذا ، أو أعلم أن له عليه كذا ، أو أقر عندي أن عليه كذا لم تصح هذه الشهادة ، ولم يجز الحكم بها ؛ لأن الخبر حكاية حال مضافة إلى المشهود عليه ، فلم يتعلق بها الإلزام إلا بالشهادة المضافة إلى الشاهد .

                                                                                                                                            فإذا تقرر اعتبار هذه الشروط الأربعة في صحة الشهادة لم يكن للقاضي أن يسمعها إلا بمسألة المدعي ؛ لأن سماعها حق له .

                                                                                                                                            والأولى أن يسمعها على المدعى عليه في عينه وبمشهده .

                                                                                                                                            فإذا سمعها لم يكن له أن يحكم بها ، إلا أن يسأله المشهود له أن يحكم له ببينته .

                                                                                                                                            فإذا سأله الحكم فالأولى أن لا يحكم إلا بعد إعلام المشهود عليه أنه يحكم عليه بالبينة ، ليذكر ما لعله أن يكون عنده من الأسباب التي ترد بها الشهادة ، أو يقر فيكون الإقرار أقوى من الشهادة .

                                                                                                                                            فإن حكم بها قبل إعلام المشهود عليه جاز .

                                                                                                                                            وإن حكم بها قبل مسألة المشهود له ، ففي جوازه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في جواز سؤال القاضي المدعى عليه قبل أن يطالبه المدعي بسؤاله :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز حكمه ، لأنه حكم لغير طالب .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز حكمه ؛ لأن شواهد الحال تدل على الطلب .

                                                                                                                                            فإن قال المدعى عليه قبل الشهادة : ما يشهد به هذان الشاهدان علي فهو حق لم يكن إقرارا منه بما يشهدان به لتقدمه على الشهادة .

                                                                                                                                            ولو قال بعد الشهادة : ما شهدا به علي حق كان إقرارا .

                                                                                                                                            ولو قال ما شهدا به علي صدق لم يكن إقرارا .

                                                                                                                                            والفرق بينهما أن الحق : ما لزم ، فلم يتوجه إليه احتمال ، والصدق : قد يكون فيما قضاه ، فتوجه إليه الاحتمال .

                                                                                                                                            وإذا حكم عليه بالبينة لم يلزم إحلاف المدعي مع بينته ، وهو قول جمهور الفقهاء .

                                                                                                                                            [ ص: 313 ] وقال ابن أبي ليلى : لا أحكم له بالبينة حتى يحلفه معها ، كما لا أحكم له على غائب إلا بعد يمينه .

                                                                                                                                            وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن في إحلافه مع بينته قدحا فيها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يحلف في الغائب ، لجواز أن يكون قد قضاه ، والحاضر لو قضاه لذكره .

                                                                                                                                            فلو أخر المدعي إحضار بينته ، وأراد ملازمة خصمه على إحضاره ، سأله القاضي عنها ، فإن كانت غائبة لم يكن له ملازمة الخصم ، وقيل : له لك الخيار في تأخيره إلى حضور بينتك ، أو تحلفه فتسقط الدعوى ، فإن حضرت بينتك لم تمنع اليمين من سماعها .

                                                                                                                                            وإن كانت البينة حاضرة في البلد ، فأراد ملازمته على حضورها كان له أن يلازمه ما كان مجلس الحكم في يومه باقيا .

                                                                                                                                            فإذا انقضى المجلس لم يكن له ملازمته ما لم تشهد أحواله بوجود البينة .

                                                                                                                                            فإن شهدت أحواله بوجود البينة جاز أن يلازمه إلى غاية أكثرها ثلاثة أيام لا يتجاوزها .

                                                                                                                                            ولا يلزمه إقامة كفيل بنفسه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : له أن يلازمه أبدا ما كان حضورها ممكنا أو يعطيه كفيلا بنفسه لرواية الهرماس بن حبيب ، عن أبيه ، عن جده أنه استعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل في حق له ، فقال له : الزمه .

                                                                                                                                            ودليله ما رواه سماك ، عن علقمة بن وائل ، عن أبيه وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت ورجلا من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي : هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي ، وقال الكندي : أرضي وفي يدي أزرعها حق له فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : " شاهداك أو يمينه " فقال : إنه فاجر لا يتورع من شيء فقال : " ليس لك إلا ذلك " فنفى استحقاق الملازمة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الخبر أنه إذن في الملازمة على حق ، والحق ما ثبت وجوبه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية