الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : سير الدعوى حين حضور الخصمين

                                                                                                                                            فإذا تقرر ما وصفنا ، من واجب إعداء المستعدي ، وحضر الخصمان مجلس الحكم ، ففصل الحكم بينهما يشتمل على ستة فصول :

                                                                                                                                            أحدها : ابتداء المدعي بتحرير الدعوى ، لتنتفي عنها الجهالة ، إلا فيما يصح تمليكه مع الجهالة كالوصايا فيجوز أن يدعيها مجهولة ؛ لأنه يجوز أن يتملكها مجهولة ولا تصح الدعوى فيما عداها إلا معلومة .

                                                                                                                                            فإن قيل : لو أقر بمجهول جاز فهلا جاز أن يدعي مجهولا .

                                                                                                                                            قيل : لوقوع الفرق بينهما بأنه قد تعلق بالإقرار حق لغيره فلزم بالمجهول خيفة إنكاره ولم يتعلق بالدعوى حق لغيره .

                                                                                                                                            منع الجهالة .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فالدعوى على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون مما لا ينقل من دار وعقار فالعلم بها يكون بثلاثة أشياء : ذكر بلدها ، وذكر مكانها ، وذكر حدودها الأربعة .

                                                                                                                                            فإن ذكر ثلاثة حدود منها ، لم يقنع وأجازه أبو حنيفة .

                                                                                                                                            وإن اشتهرت الدار باسم في البلد لا يشاركها غيرها فيه ، ميزها بذكر الاسم ، لأنه زيادة علم .

                                                                                                                                            ولفظ الدعوى في مثلها ، أن يقول : لي في يده ، ولا يقول : لي عليه ، ولا عنده .

                                                                                                                                            ثم يصل هذه الدعوى ، بأن يقول : وقد غلبني عليها بغير حق ، أو قد باعها علي ولم يسلمها ، ولا يلزم معه البيع إلا بعد أن يختلفا فيه ، فتنتقل الدعوى إلى البيع فتوصف .

                                                                                                                                            [ ص: 306 ] فإن كانت الدار في يد المدعي ، لم تصح الدعوى إلا أن يتعلق له بها حق على المدعى عليه من أجرة سكناها ، أو قيمة مستهلك منها .

                                                                                                                                            فإن قال وقد نازعني فيها لم تصح ، لأن المنازعة دعوى تكون من غيره لا منه .

                                                                                                                                            وإن قال قد عارضني فيها بغير حق ، فقد اختلف أصحابنا في صحة هذه الدعوى .

                                                                                                                                            فقال أبو حامد تصح هذه الدعوى ، ويسأل الخصم عنها ؛ لأن في المعارضة رفع يد مستحقه .

                                                                                                                                            وقال بعضهم : لا تصح هذه الدعوى ، حتى يصف المعارضة بما تصح به الدعوى .

                                                                                                                                            الضرب الثاني : أن تكون الدعوى فيما ينقل ، فهي على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون في الذمة .

                                                                                                                                            فقد يستحق ذلك من خمسة أوجه : ثمن ، وأجرة ، وقرض ، وقيمة متلف ، وعقل سلم .

                                                                                                                                            ولفظ الدعوى فيه أن يقول : لي عليه ، ولا يقول لي بيده .

                                                                                                                                            فإن قال : " لي عنده " جاز عندنا ، ولم يجز عند أبي حنيفة .

                                                                                                                                            وإنما جوزناه لأن " عند " قد تستعمل في موضع " على " اتساعا .

                                                                                                                                            وهو في هذه الدعوى مخير بين أن يذكر سبب الاستحقاق من أحد هذه الوجوه الخمسة أو لا يذكره ، بعد أن يصف ما يدعيه في الذمة ، بما ينفي عنه الجهالة .

                                                                                                                                            فإن كان من سلم استوفى أوصاف السلم كلها .

                                                                                                                                            وإن كان من ثمن ، أو أجرة ، أو قيمة متلف ، صار معلوما بأربعة أشياء : ذكر قدره ، وذكر جنسه ، وذكر نوعه ، وذكر صفته .

                                                                                                                                            فالقدر : أن يقوله : ألف أو مائة .

                                                                                                                                            والجنس : أن يقول : دراهم أو دنانير .

                                                                                                                                            والنوع : أن يقول في الدراهم : بيض أو سود ، وفي الدنانير مشرقية أو مغربية ، وإن نسبت إلى طابع ذكر الطابع ، لا سيما إذا اختلفت به القيمة .

                                                                                                                                            والصفة : أن يقول : عتق أو جدد ، صحاح أو كسور ، فإن لم يختلف عتقها وجددها ، ولا صحاحها وكسورها ، لم يلزمه ذكر هذه الصفة .

                                                                                                                                            [ ص: 307 ] ولا يجوز أن يطلق ذكر الدراهم والدنانير في الدعوى ، وإن جاز إطلاقا في الأثمان ، لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : إن زمان العقد يقيد صفة الأثمان بالغالب من النقود ، ولا يتقيد ذلك بزمان الدعوى لتقدمها عليه .

                                                                                                                                            والثاني : لجواز أن يكون الثمن في الدعوى مشروطا من غير الغالب .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون الدعوى قائمة فهي على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون حاضرة فتصح الدعوى لها بالإشارة إليها ، من غير ذكر الصفة .

                                                                                                                                            ولفظ الدعوى : أن يقول : لي في يده هذا العبد ، أو هذه الدابة . فإن قال : لي عنده ، جاز . وإن قال : لي عليه ، جاز عند بعض أصحابنا ولم يجز عند بعضهم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون العين غائبة فهي على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تضبط بالصفة ، كالحبوب ، والأدهان ، مما له مثل فيصفها ، ولا تحتاج إلى ذكر قيمتها ؛ لأن القيمة لا تستحق في ذي المثل .

                                                                                                                                            وإن كان مما يضبط بالصفة وليس بذي مثل ، كالثياب والحيوان ، لزم أن يستوفي جميع أوصافه ، ويستظهر بذكر قيمته ، لجواز أن يستحقها مع التلف ، فإن أغفل القيمة جاز مع بقاء العين لأنها غير مستحقة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون مما لا تضبط بالصفة كاللؤلؤ ، والجوهر ، فعليه في الدعوى ذكر الجنس والنوع ، وإن كان مختلف الألوان ذكر اللون ، ثم حرر الدعوى ونفى الجهالة بذكر القيمة ؛ لأنه لا يصير معلوما إلا بها .

                                                                                                                                            فهذا شرح ما تصير الدعوى به معلومة يصح سماعها والسؤال عنها فإن قصر فيها المدعي للقاضي أن يسأله عما قصر فيه ولا يبتدئه بالتعليم .

                                                                                                                                            فإن علمه تحرير الدعوى فقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز وهو قول أبي سعيد الإصطخري .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز وهو قول الأكثرين كما لا يجوز أن يعلمه احتجاجا ولا يلقنه إقرارا وإنكارا ، فهذا حكم الدعوى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية