الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : حكم الهدية بصورة عامة .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فالمهاداة فيمن عدا الولاة مستحبة في البذل ومباحة في القبول ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " تهادوا تحابوا "

                                                                                                                                            حكم مهاداة الولاة .

                                                                                                                                            وأما مهاداة الولاة فهم ثلاثة أصناف : ولاة سلطنة ، وولاة عمالة ، وولاة أحكام .

                                                                                                                                            فأما الصنف الأول : وهم ولاة السلطنة ، فكالإمام الأعظم ومن قام مقامه ، فكل الناس تحت ولايته ومن جملة رعيته . ولا تخلو مهاداته من أن تكون من أهل دار الإسلام أو من أهل دار الحرب .

                                                                                                                                            هدايا أهل دار الحرب إلى ولاة السلطنة .

                                                                                                                                            فإن هاداه أهل الحرب ، جاز له قبول هداياهم ، كما يجوز له استباحة أموالهم .

                                                                                                                                            وينظر في سبب الهدية ؛ فإن كانت لأجل سلطانه فسلطانه بالمسلمين فصارت الهدية لهم دونه فكان بيت مالهم بها أحق .

                                                                                                                                            وإن هاداه أهل الحرب لما لا يختص بسلطانه من مودة سلفت جاز أن يتملكها .

                                                                                                                                            وإن هادوه لحاجة عرضت فإن كان لا يقدر على قضائها إلا بالسلطنة كان بيت المال أحق بها منه .

                                                                                                                                            وإن كان يقدر عليها بغير السلطنة كان أحق بها من بيت المال .

                                                                                                                                            فيكون حكم هداياهم منقسما على هذه الأقسام الثلاثة .

                                                                                                                                            [ ص: 283 ] هدايا أهل دار الإسلام إلى ولاة السلطنة .

                                                                                                                                            وأما هدايا دار الإسلام فتقسم على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يهدي إليه من يستعين به إما على حق يستوفيه ، وإما على ظلم يدفعه عنه ، وإما على باطل يعينه عليه ، فهذه هي الرشوة المحرمة .

                                                                                                                                            روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الراشي والمرتشي والرائش " فالراشي : باذل الرشوة ، والمرتشي : قابل الرشوة ، والرائش : المتوسط بينهما .

                                                                                                                                            ولأن الهدية إن كانت على حق يقوم به فهو من لوازم نظره ولا يجوز لمن لزمه القيام بحق أن يستعجل عليه كما لا يجوز أن يستعجل على صلاته وصيامه .

                                                                                                                                            وإن كان على باطل يعين عليه ، كان الاستعجال أعظم تحريما ، وأغلظ مأثما .

                                                                                                                                            فأما باذل الرشوة فإن كانت لاستخلاص حق أو لدفع ظلم لم يحرم عليه بذلها ، كما لا يحرم افتداء الأسير بها .

                                                                                                                                            وإن كانت لباطل يعان عليه يحرم عليه بذلها كما حرم على المبذول له أخذها ، ووجب رد الرشوة على باذلها ولم يجز أن توضع في بيت المال .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يهدي إليه من كان يهاديه قبل الولاية من ذي نسب أو مودة فهذه هدية ، وليست برشوة . وهي ثلاثة ضروب :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون بقدر ما كانت قبل الولاية لغير حاجة عرضت ، فيجوز له قبولها لانتفاء الظنة عنها ، وللعرف الجاري في التواصل بها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تقترن بحاجة عرضت له فيمتنع من قبوله عند الحاجة ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة فقد روي أن زيد بن ثابت كان يهدي إلى عمر بن الخطاب لبنا فيقبله ، حتى اقترض زيد مالا من بيت المال ، وأهدى اللبن ، فرده عمر ، فقال زيد : لم رددته ؟ فقال : لأنك اقترضت من بيت المال مالا ، فقال زيد : لا حاجة لي في مال يقطع الوصلة بيني وبينك ، فرد المال وأهدى اللبن فقبله منه .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يزيد في هديته على قدر العادة لغير حاجة ، فينظر : فإن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها لدخولها في المألوف وإن كانت من غير جنس الهدية منع من قبولها لخروجها عن المألوف .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يهدي إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية فهذا على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يهدي إليه من يخطب منه الولاية على عمل يقلده ، فهذه رشوة تخرج من حكم الهدايا ، يحرم عليه أخذها ، سواء كان خاطب الولاية مستحقا لها ، أو غير مستحق وعليه ردها ، ويحرم على باذلها إن كان غير مستحق للولاية وإن كان مستحقا [ ص: 284 ] لها فإن كان مستغنيا عن الولاية حرم عليه بذلها وإن كان محتاجا إليها لم يحرم عليه بذلها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يهدي إليه من يشكره على جميل كان منه ، فهذا خارج من الرشا ، وملحق بالهدايا : لأن الرشوة ما تقدمت ، والهدية ما تأخرت ، وعليه ردها ولا يجوز له قبولها : لأنه يصير مكتسبا بمجاملته ومعتاضا على جاهه ، وسواء كان ما فعله من الجميل واجبا أو تبرعا ، ولا يحرم بذلها على المهدي .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يهدي إليه من يبتدئه بالهدية لغير مجازاة على فعل سالف ولا طلبا لفعل مستأنف ، فهذه هدية بعث عليها جاه السلطنة ، فإن كافأ عليها جاز له قبولها وإن لم يكافئ عليها ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يقبلها لبيت المال لأن جاه السلطنة لكافة المسلمين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يردها ولا يقبلها لأنه المخصوص بها ، فلم يجز أن يستأثر دون المسلمين بشيء وصل إليه بجاه المسلمين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية