الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والقسم الثالث آداب القضاة مع الخصوم أن يبدأ بالنظر بين من سبق من الخصوم ، ولا يقدم مسبوقا إلا باختيار السابق ، ويجمع بين الخصمين في دخولهما عليه ، ولا يستدعي أحدهما قبل صاحبه ، فتظهر به ممايلة المتقدم ، وتضعف فيه نفس المتأخر ، بل يسوي في المدخل بين الشريف والمشروف ، والحر والعبد ، والكافر والمسلم .

                                                                                                                                            فإذا دخلا عليه سوى بينهما ، في لحظه ولفظه إن أقبل كان إقباله عليهما ، وإن أعرض كان إعراضه عنهما ، ولا يجوز أن يقبل على أحدهما ، ويعرض على الآخر ، وإن تكلم كان كلامه لهما ، وإن أمسك كان إمساكه عنهما ، ولا يجوز أن يكلم أحدهما ويمسك عن الآخر ، وإن اختلفا في الدين والحرية لئلا يصير ممايلا لأحدهما .

                                                                                                                                            ولا يسمع الدعوى منهما وهما قائمان ، حتى يجلسا بين يديه ، تجاه وجهه ، روى عبد الله بن الزبير قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي " وينبغي أن يكون مجلس الخصوم عند القاضي أبعد من مجالس غيرهم ، ليتميز به الخصوم من غيرهم .

                                                                                                                                            ويسوي في المجلس بين الشريف والمشروف ، وبين الحر والعبد ، كما سوى بينهما في الدخول .

                                                                                                                                            [ ص: 276 ] وفي التسوية بين المسلم والكافر في المجلس وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يسوي بينهما فيه ، كما سوى بينهما في المدخل والكلام .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يقدم المسلم في الجلوس على الكافر لما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه اختصم مع يهودي وجد معه درعا ضاعت منه يوم الجمل إلى شريح ، فلما دخلا عليه ، قام شريح عن مجلسه ، حتى جلس فيه علي وجلس شريح واليهودي بين يديه فقال علي : لولا أن خصمي ذمي لجلست معه بين يديك لكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تساووهم في المجالس " .

                                                                                                                                            ولولا ضعف في إسناد هذا الحديث لقدم المسلم على الذمي وجها واحدا ، ولكلا الوجهين مع ضعفه وجه .

                                                                                                                                            فإن اختلف جلوس الخصمين بين يديه ، فتقدم أحدهما على صاحبه ، كان القاضي بالخيار بين أن يؤخر المتقدم ، أو يقدم المتأخر .

                                                                                                                                            والأولى أن ينظر : فإن كان المتقدم قد جلس في مجلس الخصوم ، وتأخر عنه الآخر ، قدمه إليه ، وإن كان المتأخر قد جلس في مجلس الخصوم ، وتقدم عليه الآخر أخره إليه ، حتى يساويا فيه .

                                                                                                                                            وقد روي أن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تقاضيا إلى زيد بن ثابت في محاكمة بينهما ، فقصداه في داره فقال زيد لعمر : لو أرسلت إلي لجئتك ، فقال عمر : في بيته يؤتى الحكم فأخذ زيد وسادته ليجلس عليها عمر فقال عمر : هذا أول جورك ، سو بيننا في المجلس فجلسا بين يديه ، ونظر بينهما فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي : لو عفوت أمير المؤمنين عن اليمين ؟ فقال عمر : ما يدري زيد ما القضاء ، وما على عمر أن يحلف أن هذه أرض وهذه سماء .

                                                                                                                                            ومن عادة جلوس الخصوم ، أن يجلسوا في التحاكم بروكا على الركب ؛ لأنه عادة العرب في التنازع ، وعرف الحكام في الأحكام .

                                                                                                                                            فإن كان التخاصم بين النساء ، جلسن متربعات ، بخلاف الرجال ، لأنه أستر لهن .

                                                                                                                                            وإن كان بين رجل وامرأة ، برك الرجل وتربعت المرأة ، لأنه عرف لجنسها فلم يصر تفضيلا لها .

                                                                                                                                            [ ص: 277 ] والأولى بالقاضي أن لا يشرك بين الرجال والنساء في مجلس النظر ، ويجعل للنساء وقتا ، وللرجال وقتا .

                                                                                                                                            ولا يحضر تخاصم النساء من الرجال من يستغني عن حضوره .

                                                                                                                                            وقد اختير للحاكم عند تحاكم النساء أن يكون الواقف بين يديه لترتيب الخصوم خصيا .

                                                                                                                                            وإن كان التحاكم بين رجل وامرأة ، فالأولى أن لا ينظر بينهما عند تحاكم الرجال ، لأجل المرأة ، ولا ينظر بينهما ، عند تحاكم النساء لأجل الرجل ، ويجعل لهما وقتا غير هذين .

                                                                                                                                            وإذا جلس الخصمان تقاربا إلا أن يكون أحدهما رجلا والآخر امرأة ليست بذات محرم فيتباعدا ولا يتلاصقا ، وأبعد ما يكون من بين الخصمين أن يسمع كل واحد منهما كلام صاحبه .

                                                                                                                                            وعلى القاضي أن يسمع كلام الخصمين من غير ضجر ، ولا انتهار ، لأن ضجره عليهما مسقط لما عليه من حقهما ، وانتهاره لهما مضعف لنفوسهما ، إلا أن يكون منهما لغط فينتهرهما ، أو ينتهر اللاغط منهما .

                                                                                                                                            فإن أمسكا عن الكلام بعد جلوسهما ، قال القاضي : يتكلم من شاء منكما ، والأولى أن يقوله القائم بين يديه : لأنه أحفظ لحشمته .

                                                                                                                                            فإن تنازعا في الكلام كفهما عن التنازع ، حتى يتفقا على المبتدئ منهما .

                                                                                                                                            فإن أقاما على التنازع ويبتدئ بالكلام من قرع .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يصرفهما حتى يتفقا على المبتدئ .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية