الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الرابع : وهو أن يحكم الحاكم لحاضر على غائب بحق حاضر ، فهذا يكون في الأعيان المستحقة بالشهادة ، فلا يقف الحكم فيه على مكاتبة قاض آخر ، وينفرد بالحكم بعد سماع البينة إن كان ممن يرى القضاء على الغائب ، وسواء كانت العين منقولة أو غير منقولة .

                                                                                                                                            فإن سأله المحكوم له أن يكتب له كتابا باستحقاق الملك الحاضر إلى قاضي البلد الذي فيه المحكوم عليه ، فإن كانت العين المحكوم بها منقولة ، لم يكتب بها لانبرام الحكم بها ، وانقطاع العلق فيها ، وإن كانت غير منقولة كالعقار أجابه إليه وكتب له به ، وإن كان الحكم قد انبرم : لأنه قد يجوز أن يستحق عن ذلك أجرة يطالب بها المحكوم عليه .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا : أن رجلا لو حضر قاضي بلد وذكر له أنني ابتعت في خلطة فلان الغائب سهما من دار في بلدك وعفا عن شفعته ولي بينة قد أحضرتها تشهد عليه بالعفو فاسمعها ، واكتب بها إلى قاضي البلد الذي فيه الشفيع ، فلست آمن إن خرجت إليه أن يطالبني بالشفعة ويجحد العفو ، لم يسمع القاضي بينته ، ولم يكتب له بشيء ، وإنما لم يسمعها : لأن سماعها بعفو الغائب يكون بعد دعوى الغائب فلم يجز أن يسمع عليه بينة فيما لم يدعه .

                                                                                                                                            وهكذا لو قال الحاضر لفلان الغائب : علي ألف ، قد دفعتها إليه أو قد أبرأني منها وهذه بينتي ، ولست آمن إن خرجت إليه أن يجحد القبض أو الإبراء ويطالبني ، فاسمع بينتي واكتب بها إلى قاضي بلده ، لم يسمعها ، ولم يكتب بها : لأن الغائب لم يطالب فلم يسمع البينة على غير مطالب .

                                                                                                                                            وهكذا لو قال الحاضر : إن فلانا الغائب باعني هذه الدار ، أو وهبها لي ، وهذه بينتي ، ولست آمن أن يجحدها ، فاسمعها لي ، لم يسمعها لأن سماعها يكون بعد جواب الغائب إن أنكر .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا : أن امرأة لو ادعت أن زوجها طلقها وهو غائب أو حاضر ، وهؤلاء شهودي عليه بالطلاق ولست آمن أن يتعرض لي فاسمع بينتي واحكم عليه بطلاقي ، لم يسمع بينتها ، سواء كان حاضرا أو غائبا لأنه لم يتعرض لها فلم تصح هذه الدعوى فإن تعرض لها الزوج أحضره ولم يسمع البينة قبل حضوره وإنكاره .

                                                                                                                                            فإن كان الزوج غائبا وأرادت الزوجة أن تخرج إلى بلده ، ففي سماع بينتها إذا ادعت أنه قد يتعرض لها وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 222 ] أحدهما : لا يسمعها كما لا يسمعها على مثل هذه الدعوى في الأملاك .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يسمعها في الزوجية وإن لم يسمعها في الأملاك ، لما يلزم من فضل الاحتياط في حفظ الفروج ، ولو لم تذكر خروجها إلى بلده لم يسمع بينتها ، وجها واحدا .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا : أن أمة لو كانت في يد رجل ، فأحضرها إلى القاضي ، وذكر أنه اشتراها من فلان الغائب ، ودفع إليه ثمنها ، وسأل القاضي أن يسمع بينته على ابتياعها ودفع ثمنها ، لم يسمعها منه ، فإن استحقت الأمة من يده ببينة شهدت بها لمستحقها جاز للقاضي حينئذ أن يسمع بينته بابتياعها من الغائب ، وإن لم يسمعها قبل الاستحقاق : لأنه مستحق للرجوع بدركها بعد الاستحقاق ، وغير مستحق للدرك قبل الاستحقاق .

                                                                                                                                            وهكذا لو ادعت الأمة أنها حرة الأصل ، وأقامت بينة بحريتها فسأل صاحب اليد أن يسمع بينته بابتياعها من الغائب سمعها لاستحقاقه الرجوع بدركها .

                                                                                                                                            ولو أن الأمة حين قالت أنها حرة الأصل عدمت البينة ولم يتقدم إقرارها بالرق ، قبل قولها في حريتها وأحلفت لصاحب اليد : لأن الحرية أصل لا يطرأ عليه الرق .

                                                                                                                                            فإن سأل صاحب اليد أن تسمع بينته بابتياعها من الغائب ليرجع يدركها عليه ، لم يسمعها القاضي ولم يكاتب بها .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن بينتها بالحرية مسموعة على كل ذي يد ثابتة وزائلة ، وقولها في الحرية مقبول ، على ذي اليد الثابتة .

                                                                                                                                            ويستحق صاحب اليد إحلاف البائع أنها ليست بحرة فإن سأل القاضي أن يكتب له بما حكم به من حريتها كتب له بإحلاف البائع ، ولم يكتب له برجوع الدرك على البائع .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا : أن يشهد عند القاضي شاهد واحد بملك لرجل فيذكر المشهود له أن له شاهدا آخر في بلد آخر ، ويسأل القاضي أن يكتب إلى قاضي ذلك البلد بما شهد به الشاهد عنده فهذا معتبر بالملك .

                                                                                                                                            فإن كان في بلد القاضي الآخر كتب له بشهادة من شهد عنده ليتولى ذلك الحاكم تكميل البينة وتنفيذ الحكم .

                                                                                                                                            وإن كان الملك في بلد هذا القاضي لم يكتب له بالشهادة ، وأخذ كتاب ذلك القاضي بما شهد به الشاهد الآخر ليتولى هذا القاضي تنفيذ الحكم بالشاهدين .

                                                                                                                                            ويتفرع على هذا أن رجلا أو امرأة لو ادعى واحد منهما أن له ولدا حرا في بلد [ ص: 223 ] آخر وسأل القاضي سماع البينة بنسبه وحريته أو بأنه ولد على فراشه ليكتب به إلى قاضي ذلك البلد ، فلهذا الطالب في طلبه ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            إحداها : أن يطلب ذلك : لأن الولد قد مات فيجوز للقاضي أن يسمع البينة بذلك ويكتب به إلى قاضي ذلك البلد ليحكم له بميراث ولده .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يذكر أن الولد حي ، وأنه في يد من قد استرقه ؛ سمع البينة بنسبه وحريته ، وكتب بها إلى قاضي ذلك البلد ، سواء ذكر اسم المسترق أو لم يذكره .

                                                                                                                                            ولو كان هذا في ملك لم تسمع البينة إلا بعد تسمية صاحب اليد : لأن الملك ينتقل والحرية لا تنتقل .

                                                                                                                                            فإن كانت البينة تشهد بحرية الولد ولم تشهد بنسبه ، لم يسمعها ، ولم يكتب بها : لأن الطالب إذا لم يثبت له نسب لم يثبت له حق في الطلب ، ولو كانت البينة تشهد بالنسب دون الحرية ، نظر ، فإن كان ثبوته موجبا للحرية سمعها وكتب بها ، وإن لم يوجب الحرية لم يسمعها ولم يكتب بها .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن لا يذكر الطالب استرقاق الولد ، ولا موته ، فلا يجوز أن يسمع البينة ولا يكتب بها : لأنه لا يتعلق بها في الحال حق لطالب ولا مطلوب ، فهذا حكم الفصل الأول فيما اشتمل عليه من الأقسام الأربعة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية