الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            في المنع من القضاء على الغائب .

                                                                                                                                            فصل : واستدل من منع القضاء على الغائب لقوله تعالى : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ النور : 48 ] . فدل هذا الذم على وجوب الحضور للحكم ولو نفذ الحكم مع الغيبة لم يجب الحضور ولم يستحق الذم .

                                                                                                                                            وبما رواه سماك ، عن حنش بن المعتمر الصنعاني ، عن علي بن أبي طالب قال : ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن وقال لي : " يا علي : إن الناس سيتقاضون إليك ، فإن أتاك الخصمان فلا تقضين لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق " قال علي : فما شككت في قضاء بعد . قالوا فهذا نص في المنع من الحكم إلا بعد سماع قول الخصم ، فمنع هذا من القضاء على الغائب شرعا .

                                                                                                                                            ثم منع منه عرفا قول الشاعر .

                                                                                                                                            [ ص: 298 ]

                                                                                                                                            حضروا وغبنا عنهم فتحكموا فينا وليس كغائب من يشهد



                                                                                                                                            قالوا : ولأنه حكم على غير مأيوس من إقراره فوجب أن لا يحكم عليه بالبينة قبل إنكاره كالحاضر .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن فصل الحكم قد يكون ببينة المدعي تارة ، وبيمين المنكر أخرى ، فلما لم يجز فصل الحكم بيمين المنكر مع غيبة المدعي ، لم يجز فصله ببينة المدعي مع غيبة المدعى عليه ، وتحريره قياسا : أنها حجة أحد المتداعيين فلم يجز الحكم بها مع غيبة الآخر كاليمين .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الحكم يكون للغائب تارة وعليه أخرى ، فلما لم يجز الحكم للغائب كان أولى أن لا يجوز الحكم على الغائب .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أن من لم يجز الحكم له لم يجز الحكم عليه كالحاضر .

                                                                                                                                            ودليلنا : قول الله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق [ ص : 26 ] وما شهدته به البينة على الغائب حق ، فوجب الحكم به .

                                                                                                                                            وروى أبو موسى الأشعري قال : " كان إذا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان فتواعد موعدا فوفى أحدهما ولم يف الآخر قضى للذي وفى على الذي لم يف " ومعلوم أنه لا يقضي له بدعواه فثبت أنه قضى له بالبينة .

                                                                                                                                            وروي أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله سرا فهل علي في ذلك من حرج ، فقال لها : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وهذا قضاء منه على غائب ؛ لأن أبا سفيان لم يحضر " .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا منه فتيا وليس بحكم ، قيل : بل هو حكم ؛ لأنه قال لها : " خذي " ولو كان فتيا ، لقال : يجوز أن تأخذي . فإن قيل فقد حكم بغير بينة .

                                                                                                                                            قيل : قد علم أنها زوجة أبي سفيان فلم يحتج إلى بينة .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهو حكم بمجهول ، لأنه قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف

                                                                                                                                            وقيل : لأن الواجب لها ولولدها معتبر بالكفاية ، والحكم بالواجب غير مجهول .

                                                                                                                                            ولأن القضاء على الغائب إجماع :

                                                                                                                                            روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : ألا إن أسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال قد سبق الحاج فأدان معرضا ، فأصبح قد دين به فمن كان له عليه دين فليحضر غدا لنقسم ماله بينهم بالحصص ، وليس له مع انتشار قوله في الناس مخالف فكان إجماعا .

                                                                                                                                            [ ص: 299 ] ومن القياس أن من جاز سماع البينة عليه جاز الحكم بها عليه كالحاضر ، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعى عليه إذا كان حاضرا يقدم على سؤاله إذا كان غائبا كسماع البينة .

                                                                                                                                            فإن قيل : سماع البينة تحمل ، فجاز مع الغيبة كالشهادة على الشهادة .

                                                                                                                                            قيل : التحمل لا تعتبر فيه الدعوى ، كما لا تعتبر في الشهادة على الشهادة ، وسماع البينة على الغائب يعتبر فيها تقدم الدعوى ، فثبت أنه للحكم دون التحمل .

                                                                                                                                            ولأن أبا حنيفة قد وافق في القضاء على الغائب في مسائل هي حجة عليه فيما عداها :

                                                                                                                                            فمنها أن رجلا لو حضر فادعى أنه وكيل لفلان الغائب في قبض ديونه وأنكر من عليه الدين وكالته ، فأقام الوكيل البينة بالوكالة حكم بها على الغائب وجعل للوكيل قبض الدين من الحاضر .

                                                                                                                                            ومنها أن شفيعا لو ادعى على حاضر ابتياع دار من غائب يستحق شفعتها فأنكر الحاضر الشراء ، فأقام الشفيع البينة بالابتياع ؛ حكم على الغائب بالبيع وعلى الحاضر بالشراء وأوجب الشفعة للشفيع .

                                                                                                                                            ومنها أن امرأة لو ادعت أنها زوجة فلان الغائب وأن هذا ولده منها وأقامت البينة وسألت أن يحكم لها عليه بنفقتها ونفقة ولدها في ماله الحاضر ؛ جاز للحاكم أن يحكم عليه بذلك وهو غائب .

                                                                                                                                            ومنها أن حاضرا لو ادعى أنه باع عبده هذا على فلان الغائب وقد منعه ثمنه وأقام بذلك بينة ؛ حكم على الغائب بالشراء وباع عليه العبد وقضاه حقه من ثمنه .

                                                                                                                                            ومنها أن عبدا لو قطعت يده فأقام البينة على أن مولاه الغائب أعتقه ليقتص منه يده قضى على الغائب بعتقه ، وحكم له بالقصاص من يده إلى غير ذلك من أشباه هذه المسائل ، فكذلك فيما عداها .

                                                                                                                                            فإن قيل : إن هذا يتعلق بحاضر ، قيل : فالحكم على الغائب وإن تعلق بحاضر ، فدل على أن الغيبة لا تمنع من نفوذ الحكم عليه لثبوته بالبينة .

                                                                                                                                            ولأن في الامتناع من القضاء على الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام لحفظها ؛ لأنه يقدر كل مانع منها أن يغيب ، فيبطلها متواريا أو متباعدا ، والشرع يمنع من هذا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله لا يمنع ذا حق حقه " .

                                                                                                                                            ولأن الغائب لو حضر لكان بين إقرار وإنكار فإن أقر فالبينة موافقة ، وإن أنكر فالبينة حجة فلم يكن في الغيبة مانع من الحكم بالبينة في حالتي إقراره وإنكاره .

                                                                                                                                            [ ص: 300 ] فإن قيل إذا اجتمع الإقرار والبينة تعلق الحكم بالإقرار دون البينة .

                                                                                                                                            قيل : هو كذلك إذا كان الإقرار ممكنا وبخلافه إذا كان معتذرا .

                                                                                                                                            فإن قيل لو كان حاضرا لقدر على دفع البينة بالجرح ، ولا يقدر على ذلك مع الغيبة .

                                                                                                                                            قيل : يمكنه بعد الحكم عليه أن يقيم البينة بالجرح فيسقطها وينتقض بها ما تقدم من الحكم ، فلم يمنعه نفوذ الحكم من استدراكه .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية : فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها في الحاضر ؛ لأن الدعاء يكون للحاضر دون الغائب .

                                                                                                                                            والثاني : أنه ذمه بالإعراض ، وذمه أحق بوجوب الحكم عليه من إسقاطه عنه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الخبر فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قال : إذا أتاك الخصمان فكان واردا في الحاضرين .

                                                                                                                                            والثاني : أن اشتراط ذلك في الحاضر دليل على جوازه في الغائب لعدم الشرط .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على الحاضر : فهو أن سؤاله ممكن ، وسؤال الغائب متعذر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على يمين المنكر ، فهو وجود الدعوى في البينة فجاز الحكم بها ، وعدم الدعوى في يمين المنكر فلم يجز الحكم بها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على الحكم للغائب ، فهو أن لصاحب الحق تأخيره وليس لمن عليه الحق تأخيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية