الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6459 [ ص: 89 ] ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذه الآثار التي ذكرنا قد رويت عن جماعة من أصحاب رسول الله -عليه السلام-، ولكن تأويلها يحتمل أن يكون كما ذهب إليه من حرم قليل النبيذ وكثيره، ويحتمل أن يكون على المقدار الذي يسكر منه شاربه خاصة.

                                                فلما احتملت هذه الآثار كل واحد من هذين التأويلين نظرنا فيما سواها لنعلم به أي المعنيين أريد بما ذكر فيها، فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - -وهو أحد النفر الذين روينا عنهم عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام"- قد روي عنه في إباحة القليل من النبيذ الشديد ما قد حدثنا فهد ، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي ، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ فشرب منه، فقطب ثم قال: إن نبيذ الطائف له عرام -فذكر شدة لا أحفظها- ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب".

                                                6460 حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ، قال: ثنا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون، قال: "شهدت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طعن، فجاءه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته".

                                                6461 حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا عمرو بن خالد ، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون مثله.

                                                وزاد: قال عمرو: وكان يقول: " إنا نشرب من هذا النبيذ شرابا يقطع لحوم الإبل في بطوننا من أن يؤذينا. ، قال: وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ".

                                                6462 حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق ، عن عامر ، عن سعيد بن ذي لعوة ، قال: " أتي عمر - رضي الله عنه - برجل سكران فجلده، فقال: إنما شربت من شرابك، فقال: وإن كان".

                                                [ ص: 90 ] 6463 حدثنا فهد ، قال: ثنا عمر بن حفص ، قال: ثنا أبي ، عن الأعمش ، قال: حدثني أبو إسحاق ، عن سعيد بن ذي حدان -أو ابن ذي لعوة- قال: "جاء رجل قد ظمئ إلى خازن عمر ، - رضي الله عنه - فاستسقاه فلم يسقه، فأتى بسطيحة لعمر ، - رضي الله عنه - فشرب منها فسكر، فأتي به عمر - رضي الله عنه - فاعتذر إليه وقال: إنما شربت من سطيحتك، ) فقال عمر : ( - رضي الله عنه -: إنما أضربك على السكر، فضربه عمر - رضي الله عنه -".

                                                6464 حدثنا فهد ، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي ، عن الأعمش ، قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن نافع بن علقمة قال: "أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بنبيذ له فصنع في بعض تلك المنازل، فأبطأ عليهم ليلة، فأتي بطعام فطعم، ثم أتي بنبيذ قد أخلف واشتد فشرب منه، ثم قال: إن هذا لشديد، ثم أمر بماء فصب عليه ثم شرب هو وأصحابه".

                                                6465 حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة ، قال: ثنا خالد الحذاء ، عن أبي المعذل ، عن ابن عمر: " ، أن عمر - رضي الله عنه – انتبذ له في مزادة فيها خمس عشرة أو ست عشرة قائمة، فذاقه فوجده حلوا، فقال: كأنكم أقللتم عكره".

                                                6466 حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح ، قال: حدثني الليث ، قال: حدثني عقيل ، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ، أن أباه عبد الرحمن بن عثمان قال: "صحبت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى مكة شرفها الله، فأهدى له ركب من ثقيف بسطيحتين من نبيذ - والسطيحة فوق الإداوة ، ودون المزادة- قال عبد الرحمن: : فشرب عمر - رضي الله عنه - إحداهما، ولم يشرب الأخرى حتى اشتد ما فيه، فذهب عمر يشرب منه فوجده قد اشتد، فقال: اكسروه بالماء".

                                                6467 حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو اليمان ، قال: أنا شعيب ، عن الزهري ... ، فذكر بإسناده مثله.

                                                [ ص: 91 ] قال: فلما ثبت بما ذكرنا من عمر - رضي الله عنه - إباحة قليل النبيذ الشديد، وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مسكر حرام"؛ كان ما فعله من هذا دليلا أن ما حرم رسول الله -عليه السلام- بقوله ذلك عنده من النبيذ الشديد هو السكر منه لا غير. فإما أن يكون سمع ذلك من النبي -عليه السلام- قولا أو رآه رأيا، فأقل ما يكون منه في ذلك أن يكون رآه رأيا، فرأيه ذلك عندنا حجة ولاسيما إذ كان فعله المذكور في الآثار التي رويناها عنه بحضرة أصحاب رسول الله -عليه السلام-، فلم ينكره عليه منهم منكر. فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، أو "اجتنبوا المسكر"، أو نحو ذلك يحتمل أن يكون ذلك على إطلاقها، على معنى أن يحرم قليل المسكر وكثيره كما ذهب إليه هؤلاء.

                                                ويحتمل أن يكون المراد: هو القدر الذي يسكر منه شاربه خاصة، ولا يحرم ما دون ذلك.

                                                فلما كان الأمر كذلك وجب الرجوع إلى غيرها من الآثار؛ لنعلم به أي المعنيين أريد به، فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أحد الرواة عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "كل مسكر حرام" قد روي عنه من فعله ما يدل على إباحة النبيذ الشديد على المقدار الذي لا يسكر كما نبينه الآن إن شاء الله.

                                                فدل ذلك أن المراد من قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام" هو السكر منه لا غيره؛ إذ لو كان ذلك على الإطلاق كما زعم الخصم لما شرب عمر - رضي الله عنه - من النبيذ الشديد ما دون الإسكار، ففعله ذلك لا يخلو إما أن يكون بطريق السماع من رسول الله -عليه السلام-، وإما أن يكون برأي نفسه قد رآه ذلك، فأقل الأمرين أن يكون ذلك منه بطريق الرأي، ورأيه حجة لا تدفع خصوصا وقد كان فعله المذكور عنه في الآثار التي تأتي كان بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكر ذلك عليه أحد منهم.

                                                [ ص: 92 ] فدل ذلك على موافقتهم إياه في المعنى الذي قصده، والفعل الذي فعله؛ إذ لو كان الأمر بخلاف ذلك لما وسعهم اتباعهم إياه، ولأنكروا عليه في ذلك، وهذا ظاهر.

                                                فإن قيل: هذا يتمشى في قوله -عليه السلام-: "كل مسكر حرام"، ولكن ما تقول في قوله: "ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" كما مر ذكره في حديث عائشة - رضي الله عنها -؟

                                                وفي رواية عنها أخرجها الدارقطني: "ما أسكر الفرق فالأوقية منه حرام".

                                                وفي رواية عنها أيضا: "ما أسكر الفرق فالحسوة منه حرام".

                                                وفي رواية: "ما أسكر الفرق فالجرعة منه حرام".

                                                قلت: الكل يرجع إلى معنى واحد، وهو أنه يحرم منه بعد الإسكار ملء الكف والجرعة والحسوة، لا أنه قبل الإسكار يحرم شيء من ذلك.

                                                ثم إنه أخرج ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من تسع طرق.

                                                الأول: عن فهد بن سليمان ، عن عمر بن حفص النخعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم ، عن أبيه حفص بن غياث النخعي ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث النخعي الكوفي ، عن عمر - رضي الله عنه -.

                                                وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدا .

                                                وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام قال: "أتي عمر - رضي الله عنه - بنبيذ زبيب من نبيذ زبيب الطائف.

                                                [ ص: 93 ] قال: فلما ذاقه قطب، فقال: إن لنبيذ زبيب الطائف لعراما، ثم دعا بماء فصبه عليه وشرب، وقال: إذا اشتد عليكم فصبوا عليه الماء واشربوا".

                                                قوله: "فقطب" من قطب وجهه تقطيبا: إذا عبس.

                                                قوله: "له عرام" بضم العين المهملة، أي: شدة وقوة.

                                                فإن قلت: قال ابن حزم: هذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس فيه أن ذلك النبيذ كان مسكرا، ولا أنه كان قد اشتد، وإنما فيه إخبار عمر - رضي الله عنه - بأن نبيذ الطائف له عرام وشدة، وأنه كسر هذا بالماء ثم شربه، فالأظهر فيه: أن عمر - رضي الله عنه - خشي أن يعرم ويشتد فتعجل كسره بالماء، وهذا موافق لقوله لا لقولهم أصلا.

                                                وقال أبو جعفر النحاس في هذا الحديث: هذا لعمري إسناد مستقيم ولا حجة لهم فيه، بل الحجة عليهم؛ لأنه إنما يقال: قطب لشدة حموضة الشيء، ومعنى قطب في كلام العرب: خالطت بياضه حمرة، مشتق من قطبت الشيء أقطبه: إذا خلطته.

                                                قلت: كلام ابن حزم صادر عن غير روية وهو فاسد؛ لأن قوله: لأنه ليس فيه أن ذلك النبيذ كان مسكرا تعليل فاسد؛ لأنا ما ادعينا أن ذلك النبيذ كان مسكرا، ولا أحد يقول بذلك، ولا يجوز لأحد أيضا أن ينسب عمر - رضي الله عنه - إلى شرب النبيذ المسكر، وإنما قلنا: إنه روي عنه إباحة القليل من النبيذ المشتد.

                                                وقوله: ولا أنه كان مشتدا. يبطله قول عمر - رضي الله عنه -: "إن نبيذ الطائف له عرام" أي شدة وقوة، وأيضا لو لم يكن مشتدا لما قطب عمر - رضي الله عنه -، ولا دعا بماء فصب عليه.

                                                وقول النحاس يرده أيضا ما في رواية ابن أبي شيبة، وهو قوله: "فلما ذاقه قطب" أي عبس وجهه لشدته، ولهذا طلب الماء فصب عليه حتى انكسرت شدته ثم شرب.

                                                [ ص: 94 ] فالحاصل أن "قطب" هاهنا بمعنى عبس وجهه لشدته؛ بقرينة طلب الماء لكسر شدته، وبقرينة قوله: "إن نبيذ الطائف له عرام" وإن كان قطب أيضا تجيء بمعنى مزج، يقال: قطب الشراب وأقطبه: إذا مزجه.

                                                فإن قيل: ذكر الأثرم في كتاب "الناسخ": أن عبد الله بن عمر العمري فسر "قطب" بمعنى كسره بالماء من شدة حلاوته.

                                                قال: وكذلك قال الأوزاعي، قال: وأهل العلم أولى بالتفسير.

                                                قلت: تفسير قطب بالمعنى المذكور لا ينكر، ولكنه هاهنا لا يمشي مع هذا التفسير، لأن قول عمر - رضي الله عنه -: "إن نبيذ الطائف له عرام" يستدعي كون ذلك النبيذ شديدا في الحموضة، وهذا ينافي ما ذكره الأثرم؛ فافهم.

                                                الطريق الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن زهير بن معاوية بن خديج الكوفي ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن عمرو بن ميمون الأودي الكوفي .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح، ورجاله ثقات أثبات.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون، نحوه.

                                                فإن قيل: قال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن أبا إسحاق لم يقل: حدثنا عمرو، وهو مدلس، فلا تقوم بحديثه حجة حتى يقول: حدثنا، وما أشبهه.

                                                قلت: يرد هذا قول ابن حزم: هذا خبر صحيح. مع شدة قيامه في دفع ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية الذين احتجوا بهذا الحديث وأمثاله، وأيضا فرجاله ثقات، وعدالتهم والاتصال فيما بينهم معروفة، فلا يرد الخبر بما ذكره النحاس .

                                                [ ص: 95 ] الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري ، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي ، عن عمرو بن ميمون .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر - رضي الله عنه -: "إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا، فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء".

                                                وقال ابن حزم: وهذا خبر صحيح، ولا حجة لهم فيه؛ لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد اللفة الذي لا يسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف، وليس في هذا الخبر أن عمر - رضي الله عنه - شرب من ذلك الشراب الذي شرب منه عمرو بن ميمون، فإذا ليس فيه دليل، فلا متعلق لهم بهذا الخبر أصلا.

                                                قلت: قول عمرو بن ميمون: "وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ". يرد كلام ابن حزم على ما لا يخفى على المتأمل.

                                                الرابع: عن روح بن الفرج أيضا، عن عمرو بن خالد الحراني، شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن عامر الشعبي ، عن سعيد بن ذي لعوة -بفتح اللام، وسكون العين المهملة، وفتح الواو، وفي آخره هاء- واسم ذي لعوة: عامر بن مالك .

                                                وأخرجه أبو جعفر النحاس في كتابه "الناسخ والمنسوخ" ثم قال: وابن ذي لعوة لا يعرف. وقال ابن حزم: مجهول. وقال ابن حبان: شيخ دجال.

                                                وقال البخاري: يخالف الناس في حديثه. وقال ابن الجوزي: وحديثه محال.

                                                قلت: روى عنه مثل الشعبي وأبو إسحاق السبيعي، وذكره العجلي في "تاريخه" وقال: كوفي ثقة، وكذا ذكره أبو العرب القيرواني في "تاريخه" عن [ ص: 96 ] يحيى بن معين، وذكره أبو أحمد العسكري في كتابه "معرف الصحابة"، وقال: يروي مرسلا ولا تصح صحبته.

                                                الخامس: عن فهد بن سليمان ، عن عمر بن حفص النخعي شيخ البخاري ومسلم ، عن أبيه حفص بن غياث ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن سعيد بن ذي حدان -أو ابن ذي لعوة-.

                                                وهذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات.

                                                وقد ذكرنا أن سعيد بن ذي لعوة وثقه العجلي وغيره، ويقال له أيضا: ابن ذي حدان -بضم الحاء المهملة وتشديد الدال- وقال ابن حبان: وهم من قال فيه سعيد بن ذي حدان .

                                                قوله: "ظمئ" أي عطش يقال: ظمئ يظمأ ظمأ، قال الله تعالى: لا يصيبهم ظمأ والاسم الظمء -بالكسر- وقوم ظماء أي عطاش.

                                                قوله: "بسطيحة" قال ابن الأثير: السطيحة من المزاد: ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه، وتكون صغيرة وكبيرة، وهي من أواني المياه.

                                                وقال الجوهري: السطيحة: المزادة.

                                                وحديث ابن ذي لعوة هذا صريح فيما أسكر كثيره، فالشرب من قليله مباح، ولا يحرم عليه من ذلك إلا المسكر، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لذلك الرجل الذي شرب من سطيحته فسكر: "إنما أضربك على السكر".

                                                السادس: عن فهد أيضا، عن عمر بن حفص ، عن أبيه حفص بن غياث النخعي ، عن سليمان الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت دينار البصري ، عن نافع بن علقمة .

                                                وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة.

                                                [ ص: 97 ] فإن قلت: كيف تقول بذلك وقد قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث فيه غير علة:

                                                منها: أن حبيبا على محله لا تقوم بحديثه حجة لمذهبه، وكان مذهبه أنه قال: إذا حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقا. ومن هذا أنه روى عن عروة ، عن عائشة حديث القبلة.

                                                وقال الشافعي: لا يثبت بهذا حجة لانفراد حبيب به.

                                                ومنها: أن نافعا ليس بمشهور بالرواية، ولو صح الحديث عن عمر - رضي الله عنه - لما كانت فيه حجة؛ لأن اشتداده لا يكون من حموضته.

                                                قلت: كيف يقول النحاس: لا تقوم بحبيب حجة وقد قال يحيى بن معين: حبيب بن أبي ثابت ثقة حجة. وقال ابن المبارك: قال سفيان: حدثنا ابن أبي ثابت وكان دعامة -أو كلمة تشبهها- وكان مفتي الكوفة قبل حماد بن أبي سليمان ؟!.

                                                وقوله: نافع بن علقمة ليس بمشهور بالرواية غير صحيح؛ لأن أبا عمر بن عبد البر ذكره في كتاب "الاستيعاب" في جملة الصحابة، وقال: سمع النبي -عليه السلام-.

                                                قال: وقيل: إن حديثه مرسل، وفي كتاب ابن أبي حاتم: يقال: إنه سمع من النبي -عليه السلام-.

                                                قال: وسمعت أبي يقول: لا أعلم له صحبة، ولما ذكره أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة" قال: ذكره ابن شاهين .

                                                وأما قوله: لأن اشتداده قد يكون من حموضته فهو قول بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.

                                                قوله: "قد أخلف": أي تغير، يقال: خلف الطعام واللبن إذا تغير طعمه أو رائحته، وأخلف لغة فيه، يقال: أخلف فوه إذا تغير كما يقال: خلف فوه.

                                                [ ص: 98 ] السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن خالد الحذاء ، عن أبي المعذل -بضم الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد الذال المعجمة المفتوحة- عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

                                                وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه": ثنا ابن علية ، عن الحذاء ، عن أبي المعذل ، عن ابن عمر "أن عمر - رضي الله عنه – نبذ له في ذي خمس عشرة قائمة، فجاء فذاقه، فقال: كأنكم أقللتم عكره".

                                                فإن قلت: قال ابن حزم: أبو المعذل مجهول، فلا يصح هذا الخبر.

                                                قلت: قال أبو أحمد الحاكم: أبو المعذل الطفاوي -ويقال البكري- روى عن عبد الله بن عمر وأم سلمة، حديثه في البصريين، روى عنه خالد الحذاء وعوف بن أبي جميلة الأعرابي وسماه عطية، وكذا قاله أبو العباس بن محمد عن يحيى بن معين، وفي كتاب الدارقطني: روى عن أبويه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزاد في الرواة عنه: سليمان التيمي، فزال بحمد الله جهالة حاله وعينه.

                                                قوله: "عكره" العكر -بفتحتين- دردي الشراب. قال الجوهري: عكر الشراب والماء والدهن: آخره وخاثره، والعكر: دردي الزيت ونحوه.

                                                الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي صالح عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن عقيل بن خالد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي.

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه": من حديث شعيب وغيره، عن الزهري، أخبرني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، أن أباه عبد الرحمن بن عثمان قال: "صاحبت عمر - رضي الله عنه - إلى مكة، فأهدى له ركب من ثقيف سطيحتين من نبيذ -

                                                [ ص: 99 ] والسطيحة فوق الإداوة ودون المزادة- قال عبد الرحمن: فشرب عمر - رضي الله عنه - إحداهما، ثم أهدي له لبن فعدله عن شرب الآخر حتى اشتد ما فيها، فذهب عمر - رضي الله عنه - ليشرب منها فوجده قد اشتد، فقال: اكسروه بالماء".

                                                فإن قيل: روى البيهقي هذا فقال: إنما كان اشتداده بالحموضة أو بالحلاوة.

                                                قلت: يضعف هذا التأويل ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه": عن ابن جريج، أخبرني إسماعيل: "أن رجلا عب في شراب نبذ لعمر - رضي الله عنه - بطريق المدينة فسكر، فتركه عمر - رضي الله عنه - حتى أفاق، فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه".

                                                قال: "ونبذ نافع بن الحارث لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المزاد -وهو عامل له- فاستأخر عمر - رضي الله عنه - حتى عدا الشراب طوره، فدعا به عمر فوجده شديدا، فأوجعه بالماء ثم شرب وسقى الناس".

                                                فقوله: فسكر يضعف تأويل البيهقي .

                                                التاسع: عن فهد بن سليمان ، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ...إلى آخره.

                                                وأخرج ابن شيبة في "مصنفه": عن عبدة بن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب: "أن قوما من ثقيف لقوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو قريب من مكة، فدعاهم بأنبذتهم، فأتوه بقدح من نبيذ، فقربه من فيه ثم دعا بماء فصبه عليه مرتين أو ثلاثا، وقال: اكسروه بالماء".

                                                قلت: هذا مرسل جيد.




                                                الخدمات العلمية