الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7459 [ ص: 279 ] ص: فإن قال قائل: فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا في توريث من ليس بعصبة ولا رحم، فذكر ما حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عوسجة مولى ابن عباس يحدث، عن ابن عباس ، - رضي الله عنهما -: " أن رجلا مات على عهد رسول الله -عليه السلام- ولم يترك قرابة إلا عبدا هو أعتقه، فأعطاه النبي -عليه السلام- ميراثه". .

                                                قال: فهذا رسول الله -عليه السلام- قد ورث المولى الأسفل من المولى الأعلى، وأنتم لا تقولون بهذا.

                                                قيل له: إنه ليس في هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- قال: المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى، وإنما فيه أنه دفع ميراثه -وهو تركته- إليه، وليس مما روي عنه في الحال أنه وارث من لا وارث له، فقد يحتمل وجوها.

                                                منها أن يكون دفعه إليه؛ لأنه ورثه إياه بما للميت عليه من الولاء.

                                                ويحتمل أن يكون مولاه ذا رحم له فدفع إليه ماله بالرحم وورثه به لا بالولاء، ألا تراه يقول في الحديث: "ولم يترك قرابة إلا عبدا هو أعتقه" فأخبر أن العبد كان قرابة له فورثه بالقرابة.

                                                ويحتمل أن يكون دفع إليه ميراثه؛ لأن الميت كان أمر بذلك، فوضع رسول الله -عليه السلام- ماله حيث أمر بوضعه فيه، كما قد روي عن عبد الله بن مسعود . - رضي الله عنه -.

                                                7460 فإنه حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن الشعبي ، عن عمرو بن شرحبيل، قال: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنه ليس حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان، فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب".

                                                قال الأعمش: : فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال: حدثني همام بن الحارث ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله مثله.

                                                [ ص: 280 ] 7461 حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال: ثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي عمرو السيباني ، عن عبد الله مثله.

                                                7462 حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله مثله.

                                                7463 حدثنا سليمان ، قال: ثنا عبد الرحمن ، قال: ثنا شعبة ، عن سلمة، قال: سمعت أبا عمرو السيباني يحدث عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: " السائبة يضع ماله حيث أحب". .

                                                7464 حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا بشر وأبو الوليد ، قالا: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله مثله.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر، قال: ثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام ، عن عمرو ، عن عبد الله نحوه.

                                                7465 حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة ، عن سلمة ، عن أبي عمرو السيباني ، عن عبد الله مثله.

                                                ويحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- أطعمه المولى الأسفل؛ لفقره كما للإمام أن يفعل ذلك فيما في يده من الأموال التي لا رب لها.

                                                وقد سمعت أن ابن أبي عمران يذكر أن هذا التأويل الأخير قد روي عن يحيى بن آدم، . فلما احتمل هذا الحديث ما ذكرنا لم يكن لأحد أن يحمله على تأويل منها إلا بدليل يدل عليه، إما من كتاب الله -عز وجل-، وإما من سنة، وإما من إجماع.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم تقدمون الولاء على ذوي الأرحام، وتورثون المولى الأعلى بالولاء، فما بالكم لا تورثون المولى الأسفل من المولى الأعلى وقد ورث رسول الله -عليه السلام- المولى الأسفل من المولى الأعلى على ما في حديث ابن عباس؟ .

                                                [ ص: 281 ] أخرجه عن علي بن شيبة ، عن يزيد بن هارون الواسطي ، عن حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار المكي ، عن عوسجة المكي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

                                                وأخرجه الأربعة.

                                                فأبو داود: عن إسماعيل بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن عوسجة .

                                                والترمذي: عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن عمرو ، عن عوسجة بمعناه، وقال: حسن.

                                                والنسائي: عن قتيبة ، عن سفيان به.

                                                وابن ماجه: عن إسماعيل بن موسى ، عن ابن عيينة به.

                                                فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟

                                                قلت: قد حسنه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.

                                                وقال النسائي في عوسجة: ليس بالمشهور، ولا نعلم أحدا يروي عنه غير عمرو.

                                                وقال البخاري: لم يصح حديثه.

                                                وقال البيهقي: رواه حماد بن سلمة ، وابن عيينة ، عن عمرو ، عن عوسجة ، عن ابن عباس: "أن رجلا مات...إلى آخره".

                                                وخالفهما حماد بن زيد، فرواه عن عمرو بن دينار ، عن عوسجة مولى ابن عباس: "أن رجلا مات...." الحديث.

                                                [ ص: 282 ] وكذلك أرسله روح بن القاسم ، عن عمرو ، عن عوسجة، وقال: قال البخاري: عوسجة روى عنه عمرو ولم يصح حديثه، وروى عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس، وهو خطأ.

                                                وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يكون في الحديث دلالة على توريث المولى الأسفل من المولى الأعلى؛ لأنه لم يقل فيه: إنه -عليه السلام- قال: المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى، وإنما فيه: أعطاه النبي -عليه السلام- ميراثه -يعني تركته- وهو يحتمل وجوها:

                                                الأول: يحتمل أن يكون دفعه المال إلى العبد بسبب ما كان للميت عليه من الولاء.

                                                الثاني: يحتمل أن يكون كان المولى ذا رحم للعبد، فدفع إليه ماله بسبب الرحم لا لأن المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى بسبب الولاء.

                                                والدليل على هذا الاحتمال أنه أخبر في الحديث: "أنه لم يترك قرابة إلا عبدا هو أعتقه". فحينئذ يكون توريثه بالقرابة لا بالولاء.

                                                الثالث: يحتمل أن يكون الميت قد أوصى بأن يدفع ماله إليه لعدم وارثه، فأنفذ رسول الله -عليه السلام- وصيته، ووضع ماله حيث أمر بوضعه فيه، وذلك كما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: "إنه ليس حي من العرب...." الحديث.

                                                الرابع: يحتمل أن يكون كان النبي -عليه السلام- جعل ماله لعبده من بعده؛ طعمة له لأجل فقره واستحقاقه؛ لأنه مال ليس له صاحب، والإمام له الخيار فيه حيث يتصرف فيه كيف يشاء، فرأى صرف ذلك إليه مصلحة، لا لكونه يستحق ذلك بسبب الولاء.

                                                فإذا كان هذا الحديث يحتمل هذه الاحتمالات، لم يكن لأحد أن يحمله على [ ص: 283 ] تأويل واحد منها فيحتج به إلا بدليل يدل عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإذا كان كذلك فقد سقط الاحتجاج به، فلا يصح توريث المولى الأسفل من المولى الأعلى.

                                                وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم، وروي عن الحسن البصري والحسن بن زياد أنهما قالا: يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى، واحتجا على ذلك بالحديث المذكور، وقالا أيضا: إن كان الولاء سببا يوجب الميراث من أحد الجانبين؛ فيجب أن يوجب من الجانب الآخر كما في النكاح.

                                                والصحيح قول العامة لقوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق"، ولقول علي وزيد - رضي الله عنهما -: "لا ميراث للمعتق".

                                                وقد أجاب بعضهم عن حديث ابن عباس أنه منسوخ بهذا، والله أعلم.

                                                والقياس على النكاح فاسد لأنه أصل القرابات.

                                                ثم إنه أخرج أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - من سبع طرق رجاله كلهم ثقات.

                                                الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس ، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الجرار الفاخوري ، عن سليمان الأعمش ، عن عامر الشعبي ، عن عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

                                                الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي ، عن شعبة بن الحجاج ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي عمرو السيباني -بفتح السين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى سيبان بن الغوث بن سعد .

                                                وأبو عمرو هذا اسمه زرعة، وثقه ابن حبان .

                                                الثالث: عن سليمان بن شعيب أيضا، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي ، عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن إبراهيم النخعي ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله .

                                                [ ص: 284 ] الرابع: عن سليمان أيضا، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن شعبة ، عن سلمة ابن كهيل ، عن أبي عمرو السيباني ، عن ابن مسعود .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي عمرو السيباني، قال: قال عبد الله: "السائبة يضع ماله حيث شاء" انتهى.

                                                "السائبة" هو العبد؛ لقول مولاه إذا أعتقه: هو سائبة. فلا عقل بينهما ولا ميراث، وأصله من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، وفي كلام ابن مسعود أن العبد الذي يعتق سائبة لا يكون ولاؤه لمعتقه، ولا وارث له فيضع ماله حيث شاء، وهو الذي ورد النهي عنه.

                                                وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه: المولى الأعلى يرث من الأسفل سواء كان أعتقه لوجه الله تعالى، أو لوجه الشيطان، أو أعتقه سائبة، أو شرط أن لا الولاء عليه؛ لعموم قوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق".

                                                وقال مالك: إن أعتقه لغير وجه الله لا يرث؛ لأن هذه صلة شرعية، فإنما يستحق هذه الصلة من يعتق لوجه الله، وأما من أعتق لوجه غير الله فجان في قصده، فيحرم هذه الصلة، وهو محجوج عليه بإطلاق الحديث.

                                                الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن بشر بن بكر التنيسي أحد مشايخ الشافعي ، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن إبراهيم النخعي ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله .

                                                السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضا، عن بشر بن بكر ، عن شعبة ، عن منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث النخعي الكوفي ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله .

                                                [ ص: 285 ] السابع: عن علي بن شيبة ، عن يزيد بن هارون الواسطي ، عن شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي عمرو زرعة السيباني -بالسين المهملة- عن عبد الله .

                                                قوله: "وقد سمعت ابن أبي عمران" هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي أحد أصحاب أبي حنيفة ويحيى بن آدم بن سليمان القرشي الكوفي الفقيه الثقة، روى له الجماعة.




                                                الخدمات العلمية