حكم القاضي بعلمه
مسألة : قال المزني رحمه الله " اختلف قوله في الخصم يقر عند القاضي فقال فيها قولان : أحدهما أنه كشاهد وبه قال شريح ، والآخر أنه يحكم به " قال المزني " وقطع بأن سماعه الإقرار منه أثبت من الشهادة ، وهكذا قال في كتاب الرسالة : أقضي عليه بعلمي وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين وبشاهد وامرأتين وهو أقوى من شاهد ويمين وبشاهد ويمين وهو أقوى من النكول ورد اليمين " .
قال الماوردي : لا اختلاف بين الفقهاء أن للقاضي أن يحكم بعلمه في الجرح والتعديل ، واختلفوا في على مذاهب شتى . حكمه بعلمه في الحقوق والحدود
فقال أبو حنيفة : يحكم بما علمه في زمان ولايته وفي مواضع عمله في حقوق الآدميين ، ولا يحكم بعلمه في حقوق الله تعالى ، ولا بما علمه قبل ولايته ، ولا بما علمه في غير مواضع عمله .
[ ص: 322 ] وقال ابن أبي ليلى : يحكم بما علمه في مجلس قضائه ولا يحكم بما علمه في غيره .
وقال أبو يوسف : يحكم بعلمه إلا في الحدود .
وقال مالك : لا يحكم بعلمه في حال من الأحوال ، وبه قال من التابعين شريح ، والشعبي ومن الفقهاء الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .
فأما مذهب الشافعي فقد نص في كتاب الأم على قولين فقال في أدب القاضي من الأم : لا يجوز فيه إلا واحد من قولين :
أحدهما : أن له أن يقضي بكل ما علم قبل الولاية وبعدها في مجلس الحكم وغيره من حقوق الآدميين .
والثاني : لا يقضي بشيء من علمه في مجلس الحكم ولا غيره إلا أن يشهد شاهدان على مثل ما علم فيكون علمه وجهله سواء .
وأظهر قوليه على مذهبه جواز حكمه بعلمه وهو اختيار المزني والربيع ، وإنما لم يقطع به حذارا من ميل القضاة .
فأما حكمه بعلمه في حقوق الله تعالى فقد قال الشافعي في أدب القاضي يحتمل أن يكون كحقوق الآدميين ، ويحتمل أن يفرق بينهما .
فاختلف أصحابه في مذهبه فيها فكان أبو العباس بن سريج وأبو علي بن أبي هريرة يجمعان بينها وبين حقوق الآدميين في تخريجها على قولين .
وذهب الأكثرون من أصحابه إلى أنه لا يجوز أن يحكم فيها بعلمه قولا واحدا ، وإنما القولان في حقوق الآدميين .
واستدل من منع القاضي من الحكم بعلمه بقول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، فلو جاز له الحكم بعلمه لقرنه بالشهادة .
ولقوله صلى الله عليه وسلم للحضرمي في دعواه الأرض على الكندي : ، فدل على انتفاء الحكم بالعلم . شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم من كفر المنافقين ما لم يحكم فيه بعلمه .
وبما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تقاضى إليه نفسان فقال [ ص: 323 ] أحدهما : أنت شاهدي ، فقال : " فإن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد " وترافع إلى شريح خصمان فقال للمدعي : ألك بينة ؟ قال : نعم ؛ أنت شاهدي . قال شريح : أنت الأمير حتى أحضر فأشهد لك " ولم يعاصرهما مخالف .
ولأن الشاهد مندوب للإثبات ، والقاضي مندوب للحكم ، فلما لم يجز أن يكون الشاهد قاضيا بشهادته لم يجز أن يكون القاضي شاهدا لحكمه .
ولأن الشهادة لا تجوز بأقل من اثنين فلو جاز للقاضي أن يحكم بعلمه لصار إثبات الحق بشهادة واحد .
ولو صار القاضي كالشاهدين لصح عقد النكاح بحضوره وحده لقيامه مقام شاهدين ، وفي امتناع هذا دليل على منعه من الحكم بعلمه .
واستدل من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ الإسراء : 36 ] فدل على أنه يجوز أن يقفو ما له به علم .
وبما رواه عبادة بن الصامت أنه قال : " " . بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم بالحق حيث كنا ، وأن لا نخاف في الله لومة لائم
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " . ولا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو سمعه
ولأن الحكم بالأقوى أولى من الحكم بالأضعف على ما وصفه الشافعي ، والحكم في الشهادة بغالب الظن وبالعلم من طريق اليقين والقطع ، فلما جاز الحكم بالشهادة كان بالعلم أولى وأجوز ، ألا ترى أنه لما جاز أن يحكم بخبر الواحد كان الحكم بخبر التواتر أولى ، ولما جاز الحكم بقول الراوي عن الرسول كان الحكم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى . ولأنه كما جاز أن يحكم في الجرح والتعديل بعلمه ، جاز أن يحكم في غيرهما بعلمه ، لثبوته بأقوى أسبابه .
ولأن مفض إلى وقوف الأحكام أو فسق الحكام في منع القاضي من الحكم بعلمه فإن استحلفه ومكنه فسق ، وإن لم يستحلفه وقف الحكم ، وإذا حكم بعلمه سلم من الأمرين . رجل سمعه القاضي يطلق زوجته ثلاثا أو يعتق عبده ، ثم أنكر العتق أو الطلاق
واستدل من منع من الحكم بعلمه في حقوق الله تعالى بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " " . هلا سترته بثوبك يا هزال ؟
وبما روي عن أبي بكر رضوان الله عليه أنه قال : " لو رأيت رجلا على حد لم أحده به حتى تقوم البينة به عندي " .
[ ص: 324 ] ولأن حقوق الله تعالى موضوعة على التخفيف والمسامحة لإسقاطها بالشبهة .
واستدل من فرق بين ما علمه قبل الولاية وبعدها ، بأن حكمه بعلمه كحكمه بالشهادة فلما لم يجز أن يحكم بما سمعه من الشهادة قبل المحاكمة لم يجز أن يحكم بعلمه قبل الولاية ، ولأن علمه قبل الولاية علم شهادة وبعدها علم حكم فجاز أن يحكم بعلم الحكم ولم يجز أن يحكم بعلم الشهادة .
والدليل على التسوية بين ما قبل الولاية وبعدها : أنه لما جاز أن يحكم في الجرح والتعديل بعلمه قبل الولاية وبعدها ، ولم يجز أن يحكم في الحدود بعلمه قبل الولاية وبعدها ، وجب أن يكون ما عداهما معتبرا بهما ، إن جاز الحكم فيه بالعلم استوى ما علمه قبل الولاية وبعدها كالجرح والتعديل ، وإن لم يجز أن يحكم فيه بالعلم استوى ما علمه قبل الولاية وبعدها كالحدود ، فبطل بهذا الفرق بين العلمين .
فأما الجواب عن استدلاله بسماع البينة فهو أن سماع البينة لا يجوز إلا بعد التحاكم ، ويجوز أن يحكم بما علمه قبل التحاكم فافترقا .
وأما الجواب عن استدلاله بأن علمه قبل الولاية علم شهادة وبعدها علم حكم ، فهو أن علم الشهادة قبل الولاية يصير علم حكم بعد الولاية .