الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            الشهود

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وإذا شهد الشهود عند القاضي كتب حلية كل رجل ورفع في نسبه إن كان له أو ولاية إن كانت له وسأله عن صناعته وكنيته إن كانت له وعن مسكنه وعن موضع بياعته ومصلاه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال الشهود إذا شهدوا عند القاضي من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعلم عدالتهم في الظاهر والباطن فيجوز أن يحكم بشهادتهم ويعمل على علمه في عدالتهم .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يعلم فسقهم في الظاهر والباطن أو في الباطن دون الظاهر ، فلا يجوز أن يحكم بشهادتهم ، ويعمل على علمه في فسقهم ، فيحكم بعلمه في الجرح والتعديل . وهذا مما لم يختلف فيه مذهب الشافعي ، وإن كان له في الحكم بعلمه فيما عداه قولان .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن لا يعرفوا بعدالة ولا فسق : فلا يخلو أن يعلم إسلامهم ، أو لا يعلمه .

                                                                                                                                            فإن لم يعلم إسلامهم لم يجز أن يحكم بشهادتهم ، حتى يسأل عنهم وهذا متفق عليه . ولا يجوز أن يجري عليهم حكم الإسلام بظاهر الدار في سماع شهادتهم وإن أجرينا على اللقيط حكم الإسلام بظاهر الدار لما يتعلق بالشهادة من إلزام الحقوق التي لا تتعلق باللقيط .

                                                                                                                                            [ ص: 179 ] وإن علم إسلامهم وجهل عدالتهم لم يجز أن يحكم بشهادتهم حتى يبحث عن عدالة ظاهرهم وباطنهم فيحكم بها بعد ثبوت عدالتهم .

                                                                                                                                            وبه قال أكثر الفقهاء ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، وسواء كان لهم سيما حسن وسمت جميل أو لم يكن .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجوز أن يحكم بشهادتهم ويعمل على الظاهر من عدالتهم ، ولا يلزمه البحث عنها إلا في الحدود التي لا يمكن استدراكها ، أو يجرحهم الخصم المشهود عليه ، فيلزمه في هاتين الحالتين البحث عن عدالتهم ، ولا يلزمه البحث عنها فيما عداهما .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان لهم سيما جميل وسمت حسن حكم بشهادتهم من غير بحث عن عدالتهم ، وإن لم يكن لهم سيما وسمت لم يحكم بشهادتهم ، إلا بعد البحث عن عدالتهم استدلالا بقوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ البقرة : 143 ] .

                                                                                                                                            ودليله من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله " وسطا " والوسط العدل ومنه قول الشاعر .


                                                                                                                                            هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم



                                                                                                                                            والثاني : أنه جعلهم بما روي أن أعرابيا شهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برؤية الهلال ، فقال له : " أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ " قال : نعم فأمر بلالا أن ينادي في الناس بالصيام من الغد ، ولم يسأل عن عدالته ، وعمل على الظاهر من حاله . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في فرية فحكم بظاهر العدالة ، إلا من ثبت جرحه .

                                                                                                                                            وبما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب ، فإن الله تولى السرائر ، ودرأ الحدود بالأيمان والبينات وهذا عهد عمل به المسلمون ، وتلقوه بالقبول فصار كالإجماع .

                                                                                                                                            وقالوا : ولأن الفسق طارئ بما يستحدثه من فعل المعاصي بعد البلوغ ، فوجب أن يستدام حكم عدالته ما لم يثبت خلافها من فسقه .

                                                                                                                                            [ ص: 180 ] قالوا : ولأنه لما اعتبر إسلامه في الظاهر دون الباطن وجب اعتبار عدالته في الظاهر دون الباطن .

                                                                                                                                            ولأن الرواة لأخبار الديانات لما اعتبرت عدالة ظاهرهم دون باطنهم كان في الشهادات أولى .

                                                                                                                                            ولأنه لما اعتبر في شهود المناكح عدالة الظاهر ، كذلك شهود غير المناكح .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . وقال تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا فأمر بالعدل ، ونهى عن الفاسق ، فوجب البحث عن حاله ليعلم أنه من المأمور بهم أو المنهي عنهم ، ولا يحكم بالعدالة عن جهالة كما لا يحكم بالفسق عن جهالة لاحتمال الأمرين .

                                                                                                                                            وروى سليمان بن حريث قال شهد رجل عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال له عمر : إني لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك فائتني بمن يعرفك فقال له رجل : أنا أعرفه يا أمير المؤمنين قال : بأي شيء تعرفه ؟ قال : بالعدالة والفضل ، . قال : هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ قال : لا . قال : فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع ؟ قال : لا قال : فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟ قال : لا قال : فلست تعرفه ثم قال للرجل : ائتني بمن يعرفك فدل هذا من قوله وفعله على وجوب البحث عن العدالة .

                                                                                                                                            ومن القياس أن كل عدالة شرطت في الشهادة لم يجز الحكم بها مع الجهالة كالشهادة على الحدود .

                                                                                                                                            ولأن كل شهادة وجب البحث عن عدالتها في الحدود وجب البحث عن عدالتها في غير الحدود كما لو طعن فيها الخصم .

                                                                                                                                            ولأن كل عدالة وجب البحث عنها إذا طعن فيها الخصم وجب البحث عنها وإن لم يطعن الخصم كالحدود .

                                                                                                                                            ولأن اعتبار العدالة مجمع عليه ، وإنما الاختلاف في صفة الاعتبار ، فهم اعتبروها بالظاهر ونحن نعتبرها بالبحث والبحث أقوى من الظاهر ، فوجب أن يكون أحق بالاعتبار لما فيه من الاحتياط والاستظهار .

                                                                                                                                            ولأنه لما لم يجز أن يحكم بإسلامه بالظاهر من دار الإسلام لأن فيها كفارا لم يجز أن يحكم بعدالته بظاهر الإسلام : لأن في المسلمين فساقا .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] . فمن وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 181 ] أحدهما : أنهم شهدوا فيما أجمعوا عليه لقوله عليه السلام " لا تجتمع أمتي على ضلالة .

                                                                                                                                            والثاني : أن المراد بها شهادتهم في الآخرة عند الله تعالى بأن الرسل قد بلغوا رسالة ربهم [ ألا ترى كيف ] قال : ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] . أن ما شهدتم به حق .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله : " المسلمون عدول " فهو أن ما أوجبه الإسلام من عمل الطاعات واجتناب المعاصي موجب لعدالتهم ، وكذلك نقول فيهم إذا علمنا ذلك منهم ، والبحث إنما يتوجه إلى العلم بهذا .

                                                                                                                                            وكذا الجواب عن حديث الأعرابي .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الفسق طارئ فهو أن العدالة بفعل الطاعات ، والفسق بفعل المعاصي ، وكل واحد من الفعلين طارئ ، فلم يكن الأخذ بأحدهما أولى من الآخر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : لما اعتبر ظاهر إسلامه اعتبر ظاهر عدالته فهو أن الإسلام اعتقاد يخفى فعمل فيه على الظاهر ، والعدالة والفسق بأفعال تظهر فأوجبت البحث .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن عدالة الرواة : فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه تعتبر فيهم عدالة الظاهر والباطن كالشهادة ولا تقبل روايتهم إلا بعد البحث عن عدالتهم فعلى هذا الوجه يسقط الاستدلال وهو أصح الوجهين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يعتبر فيهم عدالة الظاهر ويعتبر في الشهود عدالة الظاهر والباطن .

                                                                                                                                            والفرق بينما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أخبار الديانات يستوي فيها المخبر وغير المخبر ، فكانت التهمة منتفية والاعتبار أخف ، والشهادة يختلف فيها الشاهد والمشهود عليه ، فكانت التهمة متوجهة والاعتبار أغلظ .

                                                                                                                                            والثاني : [ أنه قد يقبل في الرواية من النساء والعبيد من لم يقبل في الشهادة ويقبل خبر الراوي مع وجود المروي عنه ، وتقبل منها رواية الواحد عن الواحد وهي التي تسمى العنعنة ، لقوله حدثني فلان عن فلان . ومثل هذا كله لا يجوز في الشهادة ] كذلك حال العدالة .

                                                                                                                                            [ ص: 182 ] وأما الجواب عن عدالة شهود المناكح فقد كان بعض أصحابنا يذهب إلى اعتبار عدالتهم في الظاهر والباطن ، كالشهادة في الحقوق ، والذي عليه جمهورهم وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المعتبر فيهم عدالة الظاهر دون الباطن .

                                                                                                                                            والفرق بينه وبين الشهادة في الحقوق من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن عدالة الباطن لا يصل إليها غير الحكام ، فاختص اعتبارها بالأحكام .

                                                                                                                                            والثاني : أن عقود المناكح تكثر ، وفي تأخيرها إلى البحث عن عدالة الباطن ضرر شاق فخالفت شهادة الأحكام .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية