الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ أنواع قولي الشافعي ] .

                                                                                                                                            وذكره الشافعي من القولين ينقسم إلى عشرة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقيد جوابه في موضع ويطلقه في آخر مثل قوله في أقل الحيض " أنه يوم وليلة " وقال في موضع : " أقله يوم " يريد به مع ليلته ، وهذا معهود في كلام العرب ، وجاء القرآن بحمل المطلق على ما قيد من جنسه ، كقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ البقرة : 282 ] . حمل إطلاقه في العدالة على ما قيد بها في قوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . ومثل هذا لا اعتراض على الشافعي فيه . وإن وهم بعض أصحابه فخرجه قولا ثانيا ، فلم يعد وهمه على الشافعي .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما اختلفت فيه ألفاظه ، ومعانيها متفقة ، مثل قوله في [ ص: 169 ] المظاهر : " وإذا منع الجماع ، أحببت أن يمنع القبل والتلذذ " وقال في القديم : " ورأيت أن يمنع " يريد به الاستحباب ، فإن حمله بعض أصحابه على قولين كان لاختلافهم في تأويل لفظه ؛ لأن قوله : " رأيت " يحتمل أن يحمل على الاستحباب والإيجاب ، ولا يمتنع وجود مثله في كتاب الله ، فلم يتوجه على الشافعي فيه اعتراض .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما اختلف قوله فيه لاختلاف حاله ، كالصداق إذا ذكر في السر مقدارا وذكر في العلانية أكثر منه ، قال في موضع : الصداق صداق السر ، وقال في موضع : " الصداق صداق العلانية ، وليس ذلك منه لاختلاف قوله فيه ، ولكن لاختلاف حال الصداقين ، فإن اقترن بصداق السر عقد فهو المستحق ، ويكون صداق العلانية مجملا وإن اقترن العقد بصداق العلانية فهو المستحق وكان صداق السر موعدا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا أبان ذلك .

                                                                                                                                            قيل : قد أبانه بما قرره من أصول مذهبه ، وأمثال هذا كثير .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : ما اختلف قوله فيه لاختلاف القراءة أو لاختلاف الرواية : فاختلاف القراءة مثل قوله تعالى : أو لامستم النساء [ النساء : 43 ] . " أو لمستم النساء فلامستم يوجب الوضوء على اللامس أو الملموس ولمستم يوجبه على اللامس دون الملموس ، واختلاف الرواية كالمروي عنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيان المواقيت " أنه صلى عشاء الآخرة في الوقت الثاني حين ذهب من الليل نصفه .

                                                                                                                                            وفي خبر آخر : " حين ذهب من الليل ثلثه " . فلأجل اختلاف القراءة والرواية ما اختلف قوله ومثل هذا لا يتوجه عليه إنكار فيه ، لأن اختلاف الدليل أوجب اختلاف المدلول .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : ما اختلف قوله فيه ، لأنه عمل في أحد القولين على ظاهر من كتاب الله ثم بلغته سنة ثابتة نقلته عن الظاهر إلى قول آخر ، كقوله تعالى في صيام التمتع : فصيام ثلاثة أيام في الحج [ البقرة : 196 ] . فأخذ بظاهره وأوجب صيامها في أيام التشريق ، لأنها الظاهر من أيام الحج ثم روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه نهى عن صيامها " فعدل بهذه الرواية عما عمل به من ظاهر الكتاب ، وأوجب صيامها ، بعد إحرامه وقيل عرفة ، اتباعا للسنة . ومثل قوله في الصلاة الوسطى فلا إنكار عليه في هذا العدول ، لأنه عمل في الحالين بدليل .

                                                                                                                                            والقسم السادس : ما اختلف قوله فيه لأنه أداه اجتهاده إلى أحدهما في حال ثم أداه اجتهاده إلى القول الآخر في الحال الأخرى ومثل هذا لا ينكر . قد فعله الصدر الأول ومن بعدهم من جميع الفقهاء ، هذا عمر بن الخطاب قد اختلف قوله في ميراث الإخوة مع الجد فأسقطهم به في أول قوله وأشركهم معه في آخر قوله ، وحكم في [ ص: 170 ] المشركة في العام الأول بالتشريك ، وفي العام الثاني بإسقاط التشريك وقال : " تلك على ما قضينا وهذه على ما قضيناه " واختلف قول علي بن أبي طالب في ميراث الجد على أقاويل وقال في بيع أمهات الأولاد : " اجتمع رأيي ورأي أبي بكر وعمر على تحريم بيعهن وقد رأيت أن بيعهن جائز . وليس أحد من الفقهاء إلا وقد اختلفت عنه الرواية في الأحكام فسماها أصحابهم " روايات " وسماها أصحاب الشافعي أقاويل وهذه طريقة لم يبتدعها الشافعي ، وهي أدل على الورع وأبعث على الاجتهاد .

                                                                                                                                            والقسم السابع : أن تبلغه سنة لم تثبت عنده وقد عمل بالقياس فيجعل قوله من بعد موقوفا على ثبوت السنة ، كالذي جاءت به السنة من الصيام عن الميت والغسل من غسل الميت ، رويا له من طريقين ضعيفين فقال بموجب القياس بأن لا صيام عن الميت ، ولا غسل من غسله ، ثم قال ما روي وقال : " إن صح الحديث قلت به " . فأظهر موجب القياس وأوجب العدول عنه إن صح الحديث . وقال : كل قول قلته فثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه فأنا أول راجع عنه . وهذا مما يجب عليه أن يظهر الاختلاف فيه وأن يقفه على السنة إن ثبتت ، وعلى القياس إن لم تثبت .

                                                                                                                                            والقسم الثامن : أن يقصد بذكر القولين إبطال ما توسطهما ، ويكون مذهبه منها ما فرع عليه وحكم به مثل قوله في وضع الجوائح ، وقد قدرها مالك بوضع الثلث : " ليس إلا واحد من قولين إما أن توضع جميعها أو لا يوضع شيء منها " ومن قوله في الجارية الموصى بها إذا ولدت أو وهب لها بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له لما جعل أهل العراق بعض ولدها وبعض ما وهب لها لورثة الموصي وبعضه للموصى له : " ليس إلا واحد من قولين إما أن يملكها الموصى له بالموت فيكون كل ذلك ، وإما أن يملكها بالقبول ، فكل ذلك للورثة وليس لتبعيضه مع عدم قول ثالث وجه ، وهذا تحقيق يبطل به ما خالف القولين .

                                                                                                                                            والقسم التاسع : أن يذكر القولين إبطالا لما عداهما ويكون مذهبه موقوفا على ما يؤديه اجتهاده إليه من صحة أحدهما ، وإن لم يكن قائلا بهما ، ومثل هذا قد جاء به الشرع والعمل .

                                                                                                                                            أما الشرع : فقوله عليه السلام في ليلة القدر : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان . فنفى أن تكون في غير شهر رمضان ، وفي غير العشر الأواخر منه ، وجعلها موقوفة على الاجتهاد في العشر الأواخر . وأما العمل فما فعله عمر في أهل الشورى جعلها في ستة نفى بهم طلب الإمام في غيرهم ووقف الإمامة فيهم على من يؤدي الاجتهاد إليه منهم . وهذا عمل انعقد به إجماعهم .

                                                                                                                                            والقسم العاشر : أن يذكر القولين ليدل على أن لكل واحد منهما في الاجتهاد وجها ، ولا يقطع بأحدهما لاحتمال الأدلة ، ولا يعمل بها لاختلاف الحكم ، ويفرع [ ص: 171 ] على كل واحد منهما إن صح . وليس ينكر من العلماء التوقف عند الاشتباه . هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توقف في أشياء حتى نزل عليه الوحي . روي عنه عليه السلام أنه قال : " المؤمن وقاف والمنافق وثاب . ويكون مقصود الشافعي بذكر القولين أمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : إبطال ما عداهما أن يكون له في الاجتهاد وجه .

                                                                                                                                            والثاني إثبات كل واحد منهما أن له في الاجتهاد وجها وليس يجيب بهما إذا استفتي فيخير السائل بينهما وإنما يجتهد رأيه في الجواب بأحدهما فلم يصر قائلا بهما ولا معتقدا لصحتهما ، وإنما يجوز أن يكون كل واحد منهما هو الأصح ، وإن لم يقطع في الحال بالأصح وهذا إنما قاله في عدد من المسائل قيل إنها سبع عشرة مسألة . فلم يتوجه عليه ما تقدم من الاعتراض ، ولا أبطل ما قرره من مذهبه في الاجتهاد . وفي هذا التقسيم انفصال عن الاعتراض فسقط به الاعتراض والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية