الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والذي يشتمل عليه كتاب الله من النصوص في الأحكام قيل إنها خمسمائة آية .

                                                                                                                                            تنقسم ستة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : العموم والخصوص .

                                                                                                                                            والثاني : المجمل والمفسر .

                                                                                                                                            والثالث : المطلق والمقيد .

                                                                                                                                            والرابع : الإثبات والنفي .

                                                                                                                                            والخامس : المحكم والمتشابه .

                                                                                                                                            والسادس : الناسخ والمنسوخ .

                                                                                                                                            [ القسم الأول : العموم والخصوص ] .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول وهو العموم والخصوص : فالعموم هو الجمع والاشتراك مأخوذ من قولهم قد عم الأمن والخصب .

                                                                                                                                            [ ص: 58 ] وأقل العموم ثلاثة هي أقل الجمع ، ومن جعل أقل الجمع اثنين جعلهما أقل العموم .

                                                                                                                                            والخصوص : هو الانفراد مأخوذ من قولهم زيد مخصوص بالشجاعة إذا لم يكن فيهم أشجع منه .

                                                                                                                                            وأقل الخصوص واحد .

                                                                                                                                            ويجوز أن يكون الخصوص مخرجا لأقل العموم وأكثره إذا انطلق على الباقي اسم العموم كالاستثناء ويكون المخصوص غير مراد بالعموم بخلاف النسخ ، ويصير المراد بالعموم هو للباقي منه بعد المخصوص .

                                                                                                                                            ويجوز تخصيص العموم المطلق .

                                                                                                                                            ومنع بعض الناس من تخصيص ما أكد ؛ وليس بصحيح لوجود الاحتمال بعد التأكيد كوجوده من قبل .

                                                                                                                                            فأما الأحوال : فإذا تقرر هذا لم يخل العموم من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقترن به من الدلائل أو شواهد الأحوال ما يوجب حمله على عمومه فيجب حمله على مقتضى العموم ، مثل قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ النساء : 23 ] . وهو محمول على العموم في تحريم الأمهات والبنات من غير تخصيص .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يقترن به ما يدل على تخصيصه ، مثل قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية إلى قوله من قبل أن تقدروا عليهم [ المائدة : 33 ، 34 ] . فخص من عموم القتل التائب قبل القدرة عليه ؛ فوجب أن يستعمل هذا العموم على ما اقتضاه التخصيص .

                                                                                                                                            الحال الثالثة : أن يكون العموم مطلقا لم يقترن به ما يدل على أحد الأمرين .

                                                                                                                                            فقد اختلف أهل العلم فيما يوجبه إطلاقه على أربعة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب أهل الظاهر أنه لا صيغة للعموم توجب العمل بها ، والواجب فيه التوقف حتى يقوم دليل على المراد به كالمجمل لما تضمنه من الاحتمال .

                                                                                                                                            والثاني - وهو مذهب بعض المتكلمين أن الواجب استعماله على عمومه ما لم يقم دليل على تخصيصه من غير نظر ولا اجتهاد امتثالا لموجب الأمر .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب أهل العراق أنه قبل التخصيص مستعمل على عمومه من [ ص: 59 ] غير اجتهاد ولا نظر ، وبعد التخصيص مجمل لا يستعمل إلا بعد البيان : لأنه قبل التخصيص جلي ، وبعد التخصيص خفي .

                                                                                                                                            والرابع : وهو مذهب الشافعي أن لمطلق العموم صيغة توجب النظر والاجتهاد في أدلة تخصيصه ، فإن وجد ما يخصه استعمل باقيه بعد تخصيصه ، وإن لم يوجد ما يخصه أجري على عمومه ، ولا يجوز استعماله قبل النظر ولا يصير مجملا بعد التخصيص ، لأنه قبل النظر والاجتهاد متكافئ الاحتمال ، وبعد إمعان النظر والاجتهاد مترجح الاستعمال ، وليس لزمان النظر والاجتهاد وقت مقدر وإنما هو معتبر بما يؤديه الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فأدلة التخصيص تؤخذ من أربعة أصول : الكتاب والسنة والإجماع والقياس .

                                                                                                                                            فأما تخصيص الكتاب : فمثل قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] . فاقتضى عمومه إيجاب العدة على كل مطلقة فخص منه المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى : إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الأحزاب : 146 ] .

                                                                                                                                            وأما تخصيص الكتاب بالسنة : فمثل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] . خصه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا قطع في أقل من ربع دينار " ولا قطع في ثمر ولا أكثر ، ومثل قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، [ التوبة : 5 ] . ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والولدان .

                                                                                                                                            وأما تخصيص الكتاب بالإجماع : فمثل قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] . خصه الإجماع في أن العبد لا يرث . وخصته السنة في أن القاتل والكافر لا يرثان فصارا بعضها مخصوصا بالسنة وبعضها مخصوصا بالإجماع .

                                                                                                                                            وأما تخصيص الكتاب بالقياس : فمثل قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] . ثم خصت الأمة بنصف الحد نصا بقوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، [ النساء : 25 ] . ثم خص العبد بنصف الحد قياسا على الأمة فصار بعض الآية مخصوصا بالكتاب وبعضها مخصوصا بالقياس ، ومثل قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إلى قوله فكلوا منها [ الحج : 36 ] . ثم خص الإجماع تحريم الأكل من جزاء الصيد وخص القياس عند الشافعي تحريم الأكل من هدي المتعة ، والقرآن قياسا على جزاء الصيد ؛ فصار بعض الآية مخصوصا بالإجماع وبعضها مخصوصا بالقياس .

                                                                                                                                            [ ص: 60 ] [ القول في تخصيص العموم بالقياس ] .

                                                                                                                                            ويجوز تخصيص العموم بالقياس الجلي .

                                                                                                                                            وفي جواز تخصيصه بالقياس الخفي وجهان .

                                                                                                                                            فإذا عدم المجتهد أدلة التخصيص من أحد هذه الأصول الأربعة وجب عليه استعمال العموم على العموم .

                                                                                                                                            فإذا خص العموم بما ذكرنا من أحد الأصول الأربعة جاز القياس على المخصوص من العموم ولم يجز القياس على الباقي من العموم .

                                                                                                                                            مثاله : أن قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 37 ] . لما خص منه من سرق من ثمر أو كثر في سقوط القطع عنه لم يجز أن نقيس على قطع السارق قطع من ليس بسارق ، وجاز أن نقيس على سارق الثمر والكثر سارق غير الثمر والكثر في سقوط القطع عنه .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن العموم لما ضعف حكمه عن استيفاء اسمه ضعف معناه عن اجتذاب غيره ، والمخصوص لما قوي حكمه على استيفاء اسمه قوي معناه على اجتذاب غيره .

                                                                                                                                            ولذلك قاس الشافعي على جزاء الصيد في تحريم أكله وهو مخصوص تحريم هدي المتعة ولم يقسه على بقية العموم في الإباحة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية