ذكر عليا ورجوعهم إليه اعتزال الخوارج
ولما رجع علي من صفين فارقه الخوارج ، وأتوا حروراء ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا ، ونادى مناديهم : إن أمير القتال ، وأمير الصلاة شبث بن ربعي التميمي عبد الله بن الكوا اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله - عز وجل - ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . فلما سمع علي ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له : في أعناقنا بيعة ثانية ، نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت . فقالت الخوارج : استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان ، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى . فقال لهم زياد بن النضر : [ ص: 679 ] والله ما بسط علي يده فبايعناه قط ، إلا على كتاب الله وسنة نبيه ، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا له : نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت ، ونحن كذلك ، وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل .
وبعث علي إلى الخوارج وقال : لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك . فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه ، فلم يصبر حتى راجعهم ، فقال : ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى : ( عبد الله بن عباس إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) ، فكيف بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت الخوارج : أما ما جعل الله حكمه إلى الناس ، وأمرهم بالنظر فيه ، فهو إليهم ، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا ( فيه ، حكم في الزاني مائة جلدة ، وفي السارق القطع ، فليس للعباد أن ينظروا ) في هذا ، قال : فإن الله تعالى يقول : ( ابن عباس يحكم به ذوا عدل منكم ) . فقالوا : أو تجعل الحكم في الصيد والحرث ، وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين ؟ وقالوا له : أعدل عندك ، وهو بالأمس يقاتلنا ؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول ، وقد حكمتم في أمر الله الرجال ، وقد أمضى الله حكمه في عمرو بن العاص معاوية وأصحابه ، أن يقتلوا أو يرجعوا ، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا ، وجعلتم بينكم الموادعة ، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب ، مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية .
وبعث علي زياد بن النضر فقال : انظر بأي رؤوسهم [ هم ] أشد إطافة . فأخبره بأنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس .
فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم ، فأتى فسطاط يزيد بن قيس ، فدخله فصلى فيه ركعتين ، وأمره على أصبهان والري ، ثم خرج حتى انتهى إليهم ، وهم يخاصمون ، فقال : ألم أنهك عن كلامهم ؟ ثم تكلم فقال : اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة . ثم قال لهم : من زعيمكم ؟ قالوا : ابن عباس ابن الكوا . قال : فما أخرجكم علينا ؟ قالوا : حكومتك يوم صفين . قال : أنشدكم الله ، أتعلمون أنهم حيث [ ص: 680 ] رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم ، قلت لكم : إني أعلم بالقوم منكم أنهم ليسوا بأصحاب دين ؟ وذكر ما كان قال لهم ، ثم قال لهم : قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف ، وإن أبيا فنحن عن حكمهما برآء .
قالوا : فخبرنا ، أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال : إنا لسنا حكمنا الرجال ، إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين ، لا ينطق إنما يتكلم به الرجال . قالوا : فخبرنا عن الأجل ، لم جعلته بينكم ؟ قال : ليعلم الجاهل ويتثبت العالم ، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة ، ادخلوا مصركم - رحمكم الله - . فدخلوا من عند آخرهم .
قيل : والخوارج يزعمون أنهم قالوا له : صدقت ، قد كنا كما ذكرت ، وكان ذلك كفرا منا ، تبنا إلى الله ، فتب كما تبنا نبايعك ، وإلا فنحن مخالفون . فبايعنا علي ، وقال : ادخلوا ، فلنمكث ستة أشهر حتى نجبي المال ، ويسمن الكراع ، ثم نخرج إلى عدونا . وقد ( كذب الخوارج فيما زعموا ) .