ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
صفين ذكر تتمة أمر
في هذه السنة في المحرم جرت موادعة بين علي ومعاوية ، توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم طمعا في الصلح ، واختلف بينهما الرسل ، فبعث علي ، عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي ، ، وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة .
فتكلم فحمد الله وقال : أما بعد ، فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ، ونحقن به الدماء ، ونصلح ذات البين ، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثرا ، وقد استجمع له الناس ولم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فاحذر يا عدي بن حاتم معاوية لا يصبك وأصحابك مثل يوم الجمل ! فقال له معاوية : كأنك إنما جئت متهددا ، لم تأت مصلحا ! هيهات يا عدي ! كلا ، والله إني لابن حرب لا يقعقع له بالشنان ، وإنك والله من المجلبين على عثمان ، وإنك من قتلته ، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به ! فقال له شبث وزياد بن خصفة جوابا واحدا : أتيناك فيما يصلحنا وإياك ، فأقبلت تضرب لنا الأمثال ، دع ما لا ينفع وأجبنا فيما يعم نفعه . وقال يزيد بن قيس : إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ، ونؤدي عنك ما سمعنا منك ، ولن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ، ويرجع إلى الألفة والجماعة ، إن صاحبنا من قد عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك ، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه ، فإنا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ، ولا أزهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه .
فحمد الله معاوية ثم قال : أما بعد ، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي ، وأما الطاعة لصاحبكم ، فإنا لا نراها ، لأن صاحبكم [ ص: 642 ] قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا ، وآوى ثأرنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله ، ( فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا ) قتلة عثمان لنقتلهم ، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة . فقال : أيسرك يا شبث بن ربعي معاوية أن تقتل عمارا ؟ فقال : وما يمنعني من ذلك ؟ لو تمكنت ( من ابن سمية ) لقتلته بمولى عثمان . فقال شبث : والذي لا إله غيره ، لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل ، وتضيق الأرض الفضاء عليك ! فقال معاوية : لو كان ذلك لكانت عليك أضيق !
وتفرق القوم عن معاوية ، وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة فخلا به ، وقال له : يا أخا ربيعة ، إن عليا قطع أرحامنا ، وقتل إمامنا ، وآوى قتلة صاحبنا ، وإني أسألك النصر عليه بعشيرتك ، ثم لك عهد الله وميثاقه ، أني أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت . فقال زياد : أما بعد فإني على بينة من ربي ، وما أنعم الله علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ! وقام . فقال معاوية : ليس نكلم رجلا منهم فيجيب إلى ( خير ، ما ) قلوبهم إلا كقلب واحد . لعمرو بن العاص
وبعث معاوية إلى علي ، حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ، ومعن بن يزيد بن الأخنس ، فدخلوا عليه ، فحمد الله حبيب وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن عثمان كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله ، وينيب إلى أمره ، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه ، فادفع إليه قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله [ نقتلهم به ] ، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم يولونه من أجمعوا عليه . فقال له علي : ما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر ؟ اسكت [ فإنك ] لست هناك ولا بأهل له . فقال : والله لتريني بحيث تكره ! فقال له علي : وما أنت ؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا ، اذهب فصوب وصعد ما بدا لك ! وقال شرحبيل : ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي ، فهل عندك جواب غير هذا ؟ فقال علي : ليس عندي جواب غيره .
ثم حمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد ، فإن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق ; فأنقذ به من الضلالة والهلكة ، وجمع به من الفرقة ، ثم قبضه الله إليه ، فاستخلف الناس [ ص: 643 ] أبا بكر ، واستخلف أبو بكر عمر ، فأحسنا السيرة وعدلا ، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمور ونحن آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغفرنا ذلك لهما ، وولى الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس فساروا إليه فقتلوه ، ثم أتاني الناس فقالوا لي : بايع ، فأبيت ، فقالوا : بايع ، فإن الأمة لا ترضى إلا بك ، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يتفرق الناس ، فبايعتهم ، فلم يرعني إلا شقاق رجلين بايعاني ، وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، طليق ابن طليق ، حزب من الأحزاب ، لم يزل حربا لله ورسوله هو وأبوه ، حتى دخلا في الإسلام كارهين ، ولا عجب إلا من اختلافكم معه وانقيادكم له ، وتتركون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ! ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وإماتة الباطل ، وإحياء الحق ، ومعالم الدين ! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين . فقالا : تشهد أن عثمان قتل مظلوما ؟ فقال لهما : لا أقول إنه قتل مظلوما ولا ظالما . قالا : فمن لم يزعم أنه قتل مظلوما فنحن منه برآء . وانصرفا ، فقال علي - عليه السلام - : ( إنك لا تسمع الموتى ) إلى قوله : ( فهم مسلمون ) . ثم قال لأصحابه : لا يكن هؤلاء في الجد في ضلالهم أجد منكم في الجد في حقكم وطاعة ربكم .
فتنازع عامر بن قيس الحذمري ثم الطائي ، في الراية وعدي بن حاتم الطائي بصفين ، وكانت حذمر أكثر من بني عدي رهط حاتم ، فقال عبد الله بن خليفة البولاني عند علي : يا بني حذمر أعلى عدي تتوثبون ، وهل فيكم وفي آبائكم مثل عدي وأبيه ؟ [ ص: 644 ] أليس بحامي القرية ومانع الماء يوم روية ؟ أليس ابن ذي المرباع ، وابن جواد العرب ، وابن المنهب ماله ، ومانع جاره ، ومن لم يغدر ولم يفجر ، ولم يبخل ، ولم يمنن ولم يجبن ؟ هاتوا في آبائكم مثل أبيه ، أوفيكم مثله ، أليس أفضلكم في الإسلام ، ووافدكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء ويوم نهاوند ويوم تستر ؟ فقال علي : حسبك يا ابن خليفة . وقال علي : لتحضر جماعة طيء . فأتوه ، فقال : من كان رأسكم في هذه المواطن ؟ قالوا : عدي . فقال ابن خليفة : سلهم يا أمير المؤمنين ، أليسوا راضين برياسة عدي ؟ ففعل ، فقالوا : بلى . فقال علي : فعدي أحقكم بالراية ، وأخذها . فلما كان أيام طلب حجر بن عدي زياد عبد الله بن خليفة ليبعثه مع حجر ، فسار إلى الجبلين ، ووعده عدي أن يرده وأن يسأل فيه ، فطال عليه ذلك ، فقال شعرا ، منه :
أتنسى بلائي سادرا يا ابن حاتم عشية ما أغنت عديك حذمرا فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا
وكنت أنا الخصم الألد العذورا فولوا وما قاموا مقامي كأنما
رأوني ليثا بالأباءة مخدرا نصرتك إذ خام القريب وأبعد ال
بعيد وقد أفردت نصرا مؤزرا فكان جزائي أن أجرر بينكم
سحيبا وأن أولى الهوان وأوسرا وكم عدة لي منك أنك راجعي
فلم تغن بالميعاد عني حبترا
فلما انسلخ المحرم أمر علي مناديا فنادى : يا أهل الشام ! يقول لكم أمير المؤمنين : قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه ، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق ، وإني قد نبذت إليكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين !
فاجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم ، خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبيان الناس ، وكذلك فعل أمير المؤمنين ، وقال للناس : لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فأنتم بحمد الله على حجة ، وترككم قتالهم حجة أخرى ، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ، ولا تهيجوا امرأة ، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهن ضعاف القوى والأنفس . وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه في كل موطن ، وحرض أصحابه فقال : عباد الله ، اتقوا الله وغضوا الأبصار ، واخفضوا الأصوات ، وأقلوا الكلام ، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة ، ( فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) ، ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ، اللهم ألهمهم الصبر ، وأنزل عليهم النصر ، وأعظم لهم الأجر !
وأصبح علي فجعل على خيل الكوفة الأشتر ، وعلى جند البصرة ، وعلى رجالة سهل بن حنيف الكوفة ، وعلى رجالة عمار بن ياسر البصرة ، قيس بن سعد المرقال معه الراية ، وجعل وهاشم بن عتبة مسعر بن فدكي على قراء الكوفة وأهل البصرة . وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري ، وعلى ميسرته ، [ ص: 646 ] وعلى مقدمته حبيب بن مسلمة الفهري أبا الأعور السلمي ، وعلى خيل دمشق ، وعلى رجالة عمرو بن العاص دمشق مسلم بن عقبة المري ، وعلى الناس كلهم ، وبايع رجال من أهل الضحاك بن قيس الشام على الموت ، فعقلوا أنفسهم بالعمائم ، وكانوا خمسة صفوف ، وخرجوا أول يوم من صفر فاقتتلوا ، وكان على الذين خرجوا من أهل الكوفة الأشتر ، وعلى من خرج من أهل الشام ، فاقتتلوا يومهم قتالا شديدا معظم النهار ، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض . ثم خرج في اليوم الثاني حبيب بن مسلمة في خيل ورجال ، وخرج إليه من أهل هاشم بن عتبة الشام أبو الأعور السلمي ، فاقتتلوا يومهم ذلك ثم انصرفوا ، وخرج في اليوم الثالث ، وخرج إليه عمار بن ياسر ، فاقتتلوا أشد قتال ، وقال عمرو بن العاص عمار : يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين ؟ فلما رأى الله يعز دينه ، ويظهر رسوله أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فيما نرى راهب غير راغب ! ثم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - فوالله إن زال بعده معروفا بعداوة المسلم واتباع المجرم ، فاثبتوا له وقاتلوه .
وقال عمار لزياد بن النضر ، وهو على الخيل : احمل على أهل الشام . فحمل وقاتله الناس وصبروا له ، وحمل عمار فأزال عن موضعه ، وبارز يومئذ عمرو بن العاص زياد بن النضر أخاه لأمه ، واسمه عمرو بن معاوية من بني المنتفق ، فلما التقيا تعارفا ، فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه وتراجع الناس . وخرج من الغد محمد بن علي ، وهو ابن الحنفية ، وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمعين عظيمين ، فاقتتلوا أشد القتال ، وأرسل عبيد الله إلى يدعوه إلى المبارزة ، فخرج إليه ، فحرك ابن الحنفية علي دابته ورد ابنه ، وبرز علي إلى عبيد الله ، فرجع عبيد الله ، وقال محمد لأبيه : لو تركتني لرجوت قتله . وقال : يا أمير المؤمنين وكيف تبرز إلى هذا الفاسق ؟ والله إني لأرغب بك عن [ ص: 647 ] أبيه ! فقال علي : يا بني لا تقل في أبيه إلا خيرا . وتراجع الناس . وخرج في اليوم الخامس ، وخرج إليه عبد الله بن عباس ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فسب الوليد بن عقبة الوليد بني عبد المطلب ، فطلبه ليبارزه فأبى ، وقاتل ابن عباس قتالا شديدا . وخرج في اليوم السادس ابن عباس ، وخرج إليه قيس بن سعد الأنصاري ابن ذي الكلاع الحميري ، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرفوا . ثم عاد يوم الثلاثاء وخرج الأشتر ، وخرج إليه حبيب ، فاقتتلوا قتالا شديدا وانصرفوا عند الظهر .
ثم إن عليا قال : حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا ؟ فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه فقال : الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ، وما أبرم لم ينقضه الناقضون ، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه ، ولا اختلفت الأمة في شيء ، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله ، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار ، فنحن بمرأى من ربنا ومسمع ، فلو شاء عجل النقمة ، وكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره ، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة دار القرار ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ، ألا وإنكم لاقو القوم غدا ، فأطيلوا الليلة القيام ، وأكثروا تلاوة القرآن ، واسألوا الله النصر والصبر ، والقوهم بالجد والحزم ، وكونوا صادقين . فقام القوم يصلحون سلاحهم ، فمر بهم كعب بن جعيل فقال :
أصبحت الأمة في أمر عجب والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا صادقا غير كذب إن غدا تهلك أعلام العرب
وعبى علي ليلته حتى الصباح ( وزحف بالناس ) ، وخرج إليه معاوية في أهل الشام ، فسأل علي عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم ، فقال للأزد : اكفونا الأزد ، وقال لخثعم : اكفونا خثعم ، وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام ، إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد ، فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ، ليس بالعراق منهم أحد ، مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا القليل ، صرفهم إلى لخم .
[ ص: 648 ] فتناهض الناس يوم الأربعاء ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم انصرفوا عند المساء ، وكل غير غالب ، فلما كان يوم الخميس صلى علي بغلس ، وخرج بالناس إلى أهل الشام ، فزحف إليهم وزحفوا معه ، وكان على ميمنة علي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعلى ميسرته ، والقراء مع ثلاثة نفر : عبد الله بن عباس عمار ، ، وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي في القلب في أهل المدينة ، بين الكوفة والبصرة ، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار ، ومعه عدد من خزاعة وكنانة ، وغيرهم من أهل المدينة ، وزحف إليهم . ورفع معاوية قبة عظيمة ، فألقى عليها الثياب ، وبايعه أكثر أهل الشام على الموت ، وأحاط بقبته خيل دمشق . وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو ، وهو في ميسرة حبيب بن مسلمة معاوية ، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر ، وحرض عبد الله بن بديل أصحابه فقال : ألا إن معاوية ادعى ما ليس له ، ونازع الحق أهله ، وعاند من ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب الذين قد زين لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حب الفتنة ، ولبس عليهم الأمر ، وزادهم رجسا إلى رجسهم ، فقاتلوا الطغاة الجفاة ولا تخشوهم ، ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) .
وحرض علي أصحابه ، فقال في كلام له : فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدموا الدارع ، وأخروا الحاسر ، وعضوا على الأضراس ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام ، والتووا في الأطراف فإنه أصون للأسنة ، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش ، وأسكن للقلب ، وأميتوا الأصوات ، فإنه طرد للفشل ، وأولى بالوقار ، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم ، واستعينوا بالصدق والصبر ، فإن بعد الصبر ينزل ( عليكم ) النصر .
[ ص: 649 ] وقام يزيد بن قيس الأرحبي يحرض الناس فقال : إن المسلم من سلم في دينه ورأيه ، وإن هؤلاء القوم والله لا يقاتلونا على إقامة دين ضيعناه ، وإحياء حق أمتناه ، إن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ، ليكونوا جبارين فيها ملوكا ، فلو ظهروا عليكم ، لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا ، ألزموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السفيه الضال ، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده في جلسه ، ثم يقول : هذا لي ولا إثم علي ، كأنما أعطي تراثه على أبيه وأمه ، وإنما مال الله أفاءه علينا بأرماحنا وسيوفنا ، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين ، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وهم من قد عرفتم وخبرتم ! والله ما ازدادوا إلى يومهم إلا شرا !
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالا شديدا حتى انتهى إلى قبة معاوية . وأقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية ، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة ، وبعث إلى في الميسرة ، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم ، وانكشف أهل حبيب بن مسلمة العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم ( إلا ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القراء ، قد أسند بعضهم إلى بعض ، وانجفل الناس ، وأمر علي فاستقدم فيمن كان معه ) من أهل المدينة ، فاستقبلتهم جموع لأهل سهل بن حنيف الشام عظيمة ، فاحتملتهم حتى أوقفتهم في الميمنة ، وكان فيما بين الميمنة إلى موقف علي في القلب أهل اليمن . فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ، فانصرف علي يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت عنه مضر من الميسرة ، وثبتت ربيعة . وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علي معه حين قصد الميسرة ، والنبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بنيه [ ص: 650 ] أحد إلا ( يقيه بنفسه ) فيرده ، فبصر به أحمر مولى أبي سفيان أو عثمان ، فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي ، فاختلفا بينهما ضربتان ، فقتله أحمر ، فأخذ علي بجيب درع أحمر ، فجذبه وحمله على عاتقه ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، ودنا منه أهل الشام ، فما زاده قربهم إلا إسراعا ، فقال له ابنه الحسن : ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء القوم من أصحابك ؟ فقال : يا بني إن لأبيك يوما لا يعدوه ، ولا يبطئ به عنه السعي ، ولا يعجل به إليه المشي ، إن أباك والله لا يبالي أوقع على الموت ، أم وقع الموت عليه . فلما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس : لمن هذه الرايات ؟ قالوا : رايات ربيعة . قال : بل رايات عصم الله أهلها ، فصبرهم وثبت أقدامهم . وقال للحضين بن المنذر : يا فتى ألا تدني رايتك هذه ذراعا ؟ قال : بلى والله ، وعشرة أذرع ، فأدناها حتى قال : حسبك مكانك . ولما انتهى علي إلى ربيعة تنادوا بينهم : يا ربيعة إن أصيب فيكم أمير المؤمنين ، وفيكم رجل حي افتضحتم في العرب ! فقاتلوا قتالا شديدا ما قاتلوا مثله ، فلذلك قال علي :
لمن راية سوداء يخفق ظلها إذا قيل قدمها حضين تقدما
ويقدمها في الموت حتى يزيرها حياض المنايا تقطر الموت والدما
أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا بأسيافنا حتى تولى وأحجما
جزى الله قوما صابروا في لقائهم لدى الموت قوما ما أعف وأكرما
وأطيب أخبارا وأكرم شيمة إذا كان أصوات الرجال تغمغما
[ ص: 651 ] ربيعة أعني ، إنهم أهل نجدة وبأس إذا لاقوا خميسا عرمرما
ومر به الأشتر وهو يقصد الميسرة ، والأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة ، فقال له علي : يا مالك ! قال : لبيك يا أمير المؤمنين ! قال : ائت هؤلاء القوم فقل لهم : أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم ؟ فمضى الأشتر ، فاستقبل الناس منهزمين ، فقال لهم ما قال علي ، ثم قال : أيها الناس أنا الأشتر ، إلي ! أخلصوا لي مذحجا ، فأقبلت مذحج إليه ، فقال لهم : ما أرضيتم ربكم ، ولا نصحتم له في عدوكم ، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب ، وأصحاب الغارات ، وفتيان الصباح ، وفرسان الطراد ، وحتوف الأقران ، ومذحج الطعان ، الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ، ولا تطل دماؤهم ، وما تفعلون هذا اليوم فإنه مأثور بعده ، فانصحوا واصدقوا ( عدوكم اللقاء ) ، فإن الله مع الصادقين . والذي نفسي بيده ما من هؤلاء وأشار إلى أهل الشام رجل على مثل جناح بعوضة من دين ، اجلوا سواد وجهي يرجع فيه دمه ، عليكم بهذا السواد الأعظم ، فإن الله [ لو ] قد فضه تبعه من بجانبيه . قالوا : تجدنا حيث أحببت . فقصد نحو عظمهم مما يلي الميمنة ، يزحف إليهم ويردهم ، واستقبله شباب من همدان ، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ ، وكانوا صبروا في الميمنة ، حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل ، وقتل منهم أحد عشر رئيسا ، كان أولهم ذؤيب بن شريح ، ثم شرحبيل ، ثم مرثد ، ثم هبيرة ، ثم يريم ، ثم سمير أولاد شريح ، فقتلوا ، ثم أخذ الراية عميرة ثم الحارث ابنا [ ص: 652 ] بشير فقتلا جميعا ، ثم أخذ الراية سفيان ، وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعا ، ثم أخذ الراية وهب بن كريب ، فانصرف هو وقومه وهم يقولون : ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت ، ثم نرجع فلا ننصرف ، أو نقتل أو نظفر ! فسمعهم الأشتر يقولون هذا ، فقال لهم : أنا أحالفكم أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك . فوقفوا معه ، وفي هذا قال كعب بن جعيل :
وهمدان زرق تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة ، وثاب إليه الناس ، وتراجعوا ، من أهل البصرة وغيرهم فلم يقصد كتيبة إلا كشفها ، ولا جمعا إلا حازه ورده ، فإنه كذلك إذ مر به زياد بن النضر الحارثي يحمل إلى العسكر وقد صرع ، وسببه أنه قد كان استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة ، فتقدم زياد إليهم ، ورفع رايته لأهل الميمنة ، فصبروا وقاتل حتى صرع . ثم مروا بيزيد بن قيس الأرحبي محمولا نحو العسكر ، وكان قد رفع رايته لأهل الميمنة لما صرع زياد وقاتل حتى صرع ، فقال الأشتر ( حين رآه ) : هذا والله الصبر الجميل والفعل الكريم ، ألا يستحي الرجل أن ينصرف ولا يقتل . ( أو يشفى به على القتل ) ؟ وقاتلهم الأشتر قتالا شديدا ، ولزمه الحارث بن جمهان الجعفي يقاتل معه ، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون ، حتى كشف أهل الشام ، وألحقهم بمعاوية والصف الذي معه بين صلاة العصر والمغرب ، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصابة من القراء نحو المائتين أو الثلاثمائة ، قد لصقوا بالأرض كأنهم جثا ، فكشف عنهم أهل الشام ، فأبصروا إخوانهم فقالوا : ما فعل أمير المؤمنين ؟ قالوا : حي صالح في الميسرة ، يقاتل الناس أمامه . فقالوا : الحمد لله ! قد كنا ظننا أنه قد هلك وهلكتم . [ ص: 653 ] وقال عبد الله بن بديل [ لأصحابه ] : استقدموا بنا . فقال الأشتر : لا تفعل واثبت مع الناس ، فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك . فأبى ومضى كما هو نحو معاوية ، وحوله كأمثال الجبال وبيده سيفان ، وخرج عبد الله أمام أصحابه يقتل كل من دنا منه حتى قتل جماعة ، ودنا من معاوية ، فنهض إليه الناس من كل جانب ، وأحيط به وبطائفة من أصحابه ، فقاتل حتى قتل ، وقتل ناس من أصحابه ، ورجعت طائفة منهم مجرحين . فبعث الأشتر الحارث بن جمهان الجعفي ، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله حتى نفسوا عنهم ، وانتهوا إلى الأشتر ، وكان معاوية قد رأى ابن بديل وهو يضرب قدما ، فقال : أترونه كبش القوم ؟ فلما قتل أرسل إليه لينظروا من هو ، فلم يعرفه أهل الشام فجاء إليه ، فلما رآه عرفه فقال : هذا عبد الله بن بديل ، والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلا عن رجالها ! وتمثل بقول حاتم :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت يوما به الحرب شمرا
[ ص: 654 ]
أبت لي عفتي وأبى بلائي وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت : مكانك تحمدي أو تستريحي
وكانت راية بجيلة مع أبي شداد قيس بن هبيرة الأحمسي - وهو ، ( ومكشوح لقب ) - فقال لقومه : والله لأنتهين بكم إلى صاحب الترس المذهب ، وكان صاحبه قيس بن مكشوح عبد الرحمن بن خالد ، فقاتل الناس قتالا شديدا ، وشد بسيفه نحو صاحب الترس ، فعرض له مولى رومي لمعاوية ، فضرب قدم أبي شداد فقطعها ، وضربه أبو شداد فقتله ، وأشرعت إليه الرماح فقتل ، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي ، فقاتل حتى قتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس ، فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس . وقتل [ ص: 656 ] حازم بن أبي حازم ، أخو يومئذ ، وقتل أبوه أيضا ، له صحبة ، قيس بن أبي حازم ونعيم ( بن صهيب بن العيلة ) البجليون مع علي .
فلما رأى علي ميمنة أصحابه قد عادت إلى مواضعها ومواقفها ، وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم ، أقبل حتى انتهى إليهم فقال : إني قد رأيت جولتكم عن صفوفكم ، يحوزكم الجفاة الطغام ، وأعرابالشام ، وأنتم لهاميم العرب ، والسنام الأعظم ، وعمار الليل بتلاوة القرآن ، وأهل دعوة الحق . فلولا إقبالكم بعد إدباركم ، وكركم بعد انحيازكم ، لوجب عليكم ما يجب على المولي يوم الزحف [ دبره ] ، وكنتم الهالكين ، ولكن هون وجدي ، وشفى أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم ، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرودة الهيم ، فالآن ، فاصبروا ، فقد نزلت عليكم السكينة ، وثبتكم الله باليقين ، ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه ، وموبق نفسه ، في كلام طويل . وكان بشر بن عصمة المري قد لحق بمعاوية ، فلما اقتتل الناس بصفين نظر بشر إلى مالك بن العقدية الجشمي ، وهو يفتك بأهل الشام ، فاغتاظ لذلك ، فحمل على مالك ( وتجاولا ساعة ثم طعنه بشر بن عصمة ) فصرعه ، ولم يقتله ، وانصرف عنه ، وقد ندم على طعنته إياه ، وكان جبارا ، فقال :
وإني لأرجو من مليكي تجاوزا ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس
دلفت له تحت الغبار بطعنة على ساعة فيها الطعان تخالس
[ ص: 657 ]
ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني شغلت وألهاني الذين أمارس
وصادفت مني غرة وأصبتها كذلك والأبطال ماض وحابس
ألم ترني حاميت عنك مناصحا بصفين إذ خلاك كل حميم
ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتى على سابح ذي ميعة وهزيم
وخرج رجل من آل عك من أهل الشام يسأل المبارزة ، فبرز إليه قيس بن فهدان الكندي ، فحمل عليه [ العكي ] وتجاولا ساعة ، ثم طعنه عبد الرحمن فقتله ، وقال :
لقد علمت عك بصفين أننا إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا
[ ص: 658 ] ونحمل رايات الطعان بحقها فنوردها بيضا ونصدرها حمرا
وخرج قيس بن يزيد ، وهو ممن فر إلى معاوية ، فخرج إليه أبو العمرطة بن يزيد ، فتعارفا فتواقفا ، ثم انصرفا ، وأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه . وقاتلت طيء يومئذ قتالا شديدا ، فعبيت لهم جموع ، فأتاهم حمرة بن مالك الهمداني ، فقال : من القوم ؟ فقال له عبد الله بن خليفة ، وكان شيعيا شاعرا خطيبا : نحن طيء السهل ، وطيء الرمل ، وطيء الجبل ، الممنوع ذي النخل ، نحن طيء الرماح ، وطيء البطاح ، فرسان الصباح . فقال حمرة بن مالك : إنك لحسن الثناء على قومك . واقتتل الناس قتالا شديدا ، فناداهم : يا معشر طيء ، فدى لكم طارفي وتالدي ! قاتلوا على الدين والأحساب . وحمل بشر بن العسوس فقاتل ، ففقئت عينه يومئذ ، فقال في ذلك :
ألا ليت عيني هذه مثل هذه ولم أمش في الأحياء إلا بقائد
ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
ويا ليتني لم أبق بعد مطرف وسعد وبعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد
وقاتلت النخع يومئذ قتالا شديدا ، فأصيب منهم حيان ( وبكر ابنا هوذة ، وشعيب بن [ ص: 659 ] نعيم ، وربيعة بن مالك بن وهبيل ) ، وأبي أخو ، وقطعت رجل علقمة بن قيس الفقيه علقمة يومئذ ، فكان يقول : ما أحب أن رجلي أصح مما كانت ، وإنها لمما أرجو بها الثواب وحسن الجزاء من ربي . قال : ورأيت أخي في المنام فقلت له : ماذا قدمتم عليه ؟ فقال لي : إنا التقينا نحن والقوم عند الله - تعالى - ، فاحتججنا فحججناهم ، فما سررت بشيء سروري بتلك الرؤيا ، ( وكان يقال لأبي : أبي الصلاة ، لكثرة صلاته ) . وخرجت حمير في جمعها ، ومن انضم إليها من أهل الشام ، ومقدمهم ذو الكلاع ، ومعه عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وهم ميمنة أهل الشام ، فقصدوا ربيعة من أهل العراق ، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق ، وفيهم على الميسرة ، فحملوا على ابن عباس ربيعة حملة شديدة ، فتضعضعت راية ربيعة . وكانت الراية مع أبي ساسان حضين بن المنذر ، فانصرف أهل الشام عنهم ، ثم كر وقال : يا أهل عبيد الله بن عمر الشام إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علي . فشدوا على الناس شدة عظيمة ، فثبتت ربيعة ، وصبروا صبرا حسنا ، إلا قليلا من الضعفاء والفشلة ، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ ، وقاتلوا قتالا حسنا ، وانهزم خالد بن المعمر مع من انهزم ، وكان على ربيعة ، فلما رأى أصحاب الرايات قد صبروا رجع ، وصاح بمن انهزم ، وأمرهم بالرجوع فرجعوا ، وكان خالد قد سعى به إلى علي أنه كاتب معاوية ، فأحضره علي ومعه ربيعة ، فسأله علي عما قيل ، وقال له : إن كنت فعلت ذلك فالحق بأي بلد شئت ، لا يكون لمعاوية عليه حكم . فأنكر ذلك .
وقالت ربيعة : يا أمير المؤمنين ، لو نعلم أنه فعل ذلك لقتلناه ، فاستوثق منه علي بالعهود ، فلما فر اتهمه بعض الناس ، واعتذر هو بأني لما رأيت رجالا منا قد انهزموا استقبلتهم لأردهم إليكم ، فأقبلت بمن أطاعني إليكم . ولما رجع إلى مقامه حرض ربيعة ، فاشتد قتالهم مع حمير ، حتى كثرت بينهم القتلى ، فقتل وعبيد الله بن عمر سمير بن الريان العجلي ، وكان شديد البأس ، وأتى زياد ( بن عمر ) بن خصفة عبد القيس ، [ ص: 660 ] فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير ، وقال : يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم ، فأتت عبد القيس بني بكر ، فقاتلوا معهم ، فقتل ذو الكلاع الحميري ، قتله وعبيد الله بن عمر محرز بن الصحصح من تيم الله بن ثعلبة من أهل البصرة ، وأخذ سيفه ذو الوشاح ، وكان لعمر ، فلما ملك معاوية العراق أخذه منه ، وقيل : بل قتله هانئ بن خطاب الأرحبي ، ( وقيل : قتله مالك بن عمرو التنعي الحضرمي ) .
وخرج على الناس فقال : اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته . اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته . وإني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته . والله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون ، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ، لعلمت أنا على الحق ، وأنهم على الباطل . ثم قال : من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد ؟ فأتاه عصابة ، فقال : اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عمار بن ياسر عثمان ، والله ما أرادوا الطلب بدمه ، ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها ، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها ، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم ، فخدعوا أتباعهم وإن قالوا : إمامنا قتل مظلوما ، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا ، فبلغوا ما ترون ، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم . ثم مضى ومعه تلك العصابة ، فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم جاء إلى ، وهو المرقال ، وكان صاحب راية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص علي ، وكان أعور ، فقال : يا هاشم أعورا [ ص: 661 ] وجبنا ؟ لا خير في أعور لا ( يغشى البأس ) ، اركب يا هاشم ، فركب ومضى معه وهو يقول :
أعور يبغي أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملا
( لا بد أن يفل أو يفلا يتلهم بذي الكعوب تلا )
[ ص: 662 ] وقال حبة بن جوين العرني : : حدثنا فإنا نخاف الفتن . فقال : عليكم بالفئة التي فيها لحذيفة بن اليمان ابن سمية ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق ، وإن آخر رزقه ضياح من لبن " - وهو الممزوج بالماء من اللبن - . قال قلت حبة : فشهدته يوم قتل وهو يقول : ائتوني بآخر رزق لي في الدنيا ، فأتي بضياح من لبن ، في قدح أروح له حلقة حمراء ، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ، فقال :
اليوم ألقى الأحبه محمدا وحزبه
والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ، لعلمت أننا على الحق ، وأنهم على الباطل . ثم قتل ، قتله أبو الغادية ، واحتز رأسه ابن حوي السكسكي ، ( وقيل قتله غيره ) .وقد كان ذو الكلاع سمع يقول : عمرو بن العاص : ( تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن لعمار بن ياسر ) ، فكان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذو الكلاع يقول لعمرو : ما هذا ويحك يا عمرو ؟ فيقول عمرو : إنه سيرجع إلينا ، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية ، وأصيب عمار بعده مع علي ، فقال عمرو لمعاوية : ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا ، بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع ، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار ( لمال بعامة ) أهل الشام إلى علي . فأتى جماعة إلى معاوية كلهم يقول : أنا قتلت عمارا . فيقول عمرو : فما سمعته يقول ؟ فيخلطون ، فأتاه ابن حوي فقال : أنا قتلته فسمعته يقول :
اليوم ألقى الأحبه محمدا وحزبه
.فقال له عمرو : أنت صاحبه ، ثم قال : رويدا ، والله ما ظفرت يداك ، ولقد أسخطت ربك .
[ ص: 663 ] قيل : إن أبا الغادية قتل عمارا ، وعاش إلى زمن الحجاج ، ودخل عليه فأكرمه الحجاج وقال له : أنت قتلت ابن سمية ؟ يعني عمارا . قال : نعم . فقال : من سره أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة ، فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية ، ثم سأله أبو الغادية حاجته ، فلم يجبه إليها ، فقال : نوطئ لهم الدنيا ولا يعطونا منها ، ويزعم أني عظيم الباع يوم القيامة ! [ فقال الحجاج ] : أجل والله ، من كان ضرسه مثل أحد ، وفخذه مثل جبل ورقان ، ومجلسه مثل المدينة والربذة ، إنه لعظيم الباع يوم القيامة ، والله لو أن عمارا قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا كلهم النار .
وقال : لما قتل [ أبو ] عبد الرحمن السلمي عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا ، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم ، فإذا معاوية ، وعمرو ، وأبو الأعور ، وعبد الله بن عمرو ، يتسايرون ، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون ، فقال عبد الله لأبيه : يا أبه ، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، قال : وما قال ؟ قال : وعمار لبنتين لبنتين ، فغشي عليه فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : " ويحك يا ابن سمية ، الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر ، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية " . فقال ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنة لبنة ، عمرو لمعاوية : أما تسمع ما يقول عبد الله ؟ قال : وما يقول ؟ فأخبره ، فقال معاوية : أنحن قتلناه ؟ إنما قتله من جاء به ، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم .
فلما قتل عمار قال علي لربيعة وهمدان : أنتم درعي ورمحي ، فانتدب له نحو من اثني عشر ، وتقدمهم علي على بغلة ، فحملوا معه حملة رجل واحد فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتفض ، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية ، وعلي يقول :
أقتلهم ولا أرى معاويه الجاحظ العين العظيم الحاويه
[ ص: 664 ] ثم نادى معاوية فقال : علام يقتل الناس بيننا ؟ هلم أحاكمك إلى الله ، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور . فقال له عمرو : أنصفت . فقال له معاوية : ما أنصفت ، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله . فقال له عمرو : ما يحسن بك ترك مبارزته . فقال له معاوية : طمعت فيها بعدي ! وكان أصحاب علي قد وكلوا به رجلين يحافظانه لئلا يقاتل ، وكان يحمل إذا غفلا ، فلا يرجع حتى يخضب سيفه ، وإنه حمل مرة فلم يرجع حتى ( انثنى سيفه ، فألقاه إليهم وقال : لولا أنه انثنى ) ما رجعت إليكم فقال ابن إسحاق الأعمش لأبي عبد الرحمن : هذا والله ضرب غير مرتاب . فقال أبو عبد الرحمن : سمع القوم شيئا فأدوه ما كانوا بكاذبين .
وأسر معاوية جماعة من أصحاب علي ، فقال له عمرو : اقتلهم . فقال عمرو بن أوس الأودي : لا تقتلني فإنك خالي . قال : من أين أنا خالك ولم يكن بيننا وبين أود مصاهرة ؟ قال : إن أخبرتك فهو أماني عندك ؟ قال : نعم . قال : أليست أختك أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : بلى . قال : فإني ابنها وأنت أخوها ، فأنت خالي . فقال معاوية : ما له لله أبوه ! أما كان في هؤلاء من يفطن لها غيره ؟ وخلى سبيله ، وكان قد أسر علي أسارى كثيرة ، فخلى سبيلهم ، فجاءوا معاوية وإن عمرا ليقول له ، وقد أسر أيضا أسارى كثيرة : اقتلهم ، فلما وصل أصحابهم قال معاوية : يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسارى لوقعنا في قبيح من الأمر ، وخلى سبيل من عنده .
وأما ، فإنه دعا الناس عند المساء وقال : ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلي ! فأقبل إليه ناس كثير ، فحمل على أهل هاشم بن عتبة الشام مرارا ، ويصبرون له ، وقاتل قتالا شديدا ، وقال لأصحابه : لا يهولنكم ما ترون من صبرهم ، فوالله ما هو إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها ، وإنهم لعلى الضلال ، وإنكم لعلى الحق . ثم حرض أصحابه وحمل في عصابة من القراء ، فقاتل قتالا شديدا ، حتى رأوا بعض ما يسرون به ، [ ص: 665 ] فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم شاب وهو يقول :
أنا ابن أرباب الملوك غسان والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان أن عليا قتل ابن عفان
أعور يبغي أهله محلا لا بد أن يفل أو يفلا
قد عالج الحياة حتى ملا يتلهم بذي الكعوب تلا
فإن تفخروا بابن البديل وهاشم فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
[ ص: 666 ] ونحن تركنا عند معترك القنا أخاك عبيد الله لحما ملحبا
ونحن أحطنا بالبعير وأهله ونحن سقيناكم سماما مقشبا
ومر علي بكتيبة من أهل الشام ، فرآهم لا يزولون ، وهم غسان ، فقال : إن هؤلاء لا يزالون إلا بطعن وضرب يفلق الهام ويطيح العظام تسقط منه المعاصم والأكف وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد ، أين أهل النصر والصبر طلاب الأجر ؟ فأتاه عصابة من المسلمين ، فدعا ابنه محمدا فقال له : تقدم نحو هذه الراية مشيا رويدا على هينتك ، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح ، فأمسك حتى يأتيك أمري . ففعل وأعد لهم علي مثلهم ، وسيرهم إلى ابنه محمد ، وأمره بقتالهم ، فحملوا عليهم فأزالوهم عن مواقفهم ، وأصابوا منهم رجالا . ومر الأسود بن قيس المرادي بعبد الله بن كعب المرادي وهو صريع ، فقال عبد الله : يا أسود ! قال : لبيك ! وعرفه وقال له : عز علي مصرعك ، ثم نزل إليه وقال له : إن كان جارك ليأمن بوائقك ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا ، أوصني رحمك الله . فقال : أوصيك بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين ، وأن تقاتل معه المحلين حتى تظهر أو تلحق بالله ، وأبلغه عني السلام وقل له : قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك ، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كان العالي . ثم لم يلبث أن مات ، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره ، فقال : رحمه الله ، جاهد عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة .
وقيل : إن الذي أشار على أمير المؤمنين علي بهذا عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي . قال : فاقتتل الناس تلك الليلة كلها إلى الصباح ، وهي ليلة الهرير ، فتطاعنوا حتى تقصفت الرماح ، وتراموا حتى نفد النبل وأخذوا السيوف ، وعلي يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، ويأمر كل كتيبة أن تقدم على التي تليها ، فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح ، والمعركة كلها خلف ظهره ، والأشتر في الميمنة ، في الميسرة ، وابن عباس وعلي في القلب ، والناس يقتتلون من كل جانب ، وذلك يوم الجمعة ، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها ، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى ، [ ص: 667 ] ويقول لأصحابه : ازحفوا قيد هذا الرمح ، ويزحف بهم نحو أهل الشام ، فإذا فعل ذلك بهم قال : ازحفوا قيد هذه القوس ، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام . فلما رأى الأشتر ذلك قال : أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم ! ثم دعا بفرسه فركبه ، وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي ، وخرج يسير في الكتائب ويقول : من يشتري نفسه ويقاتل مع الأشتر ، [ حتى ] يظهر أو يلحق بالله ؟ فاجتمع إليه ناس كثير ، فيهم حيان بن هوذة النخعي وغيره ، فرجع إلى المكان الذي كان فيه وقال لهم : شدوا شدة ، فدى لكم خالي وعمي ، ترضون بها الرب وتعزون بها الدين ! ثم نزل وضرب وجه دابته ، وقال لصاحب رايته : اقدم بها ، وحمل على القوم وحملوا معه ، فضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى عسكرهم ، ثم قاتلوه عند العسكر قتالا شديدا ، وقتل صاحب رايته . ولما رأى علي الظفر من ناحيته أمده بالرجال . فقال عمرو بن العاص لوردان مولاه : أتدري ما مثلي ومثلك ومثل الأشتر ؟ قال : لا . قال : كالأشقر ، إن تقدم عقر ، وإن تأخر عقر ، لئن تأخرت لأضربن عنقك . قال : أما والله يا أبا عبد الله لأوردنك حياض الموت ، ( ضع يدك على عاتقي ، ثم جعل يتقدم ويتقدم ويقول : لأوردنك حياض الموت ) ، واشتد القتال .