قال : عمرو بن ميمون الأودي لما طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت . فقال : لو كان عمر بن الخطاب أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني : سمعت نبيك يقول : " إن " . ولو كان إنه أمين هذه الأمة حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني : سمعت نبيك يقول : " سالم مولى أبي حذيفة إن سالما شديد الحب لله تعالى " . فقال له رجل : أدلك على عبد الله بن عمر فقال : قاتلك الله ، والله ما أردت الله بهذا ! ويحك ! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته ؟ لا أرب لنا في أموركم ، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي ، إن كان خيرا فقد أصبنا منه ، وإن كان شرا فقد صرف عنا ، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ، ويسأل عن أمر أمة محمد ، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي ، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد ، وأنظر فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ، ولن يضيع الله دينه .
فخرجوا ثم راحوا فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لو عهدت عهدا . فقال : قد كنت [ ص: 441 ] أجمعت بعد مقالتي أن أنظر ، فأولي رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق وأشار إلى علي ، فرهقتني غشية ، فرأيت رجلا دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته ، فعلمت أن الله غالب على أمره ، فما أردت أن أتحملها حيا وميتا ، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم من أهل الجنة " ، وهم علي ، وعثمان ، وعبد الرحمن ، وسعد ، ، والزبير بن العوام ، فليختاروا منهم رجلا ، فإذا ولوا واليا فأحسنوا موازرته وأعينوه . وطلحة بن عبيد الله
فخرجوا ، فقال العباس لعلي : لا تدخل معهم ، قال : إني أكره الخلاف . قال : إذن ترى ما تكره . فلما أصبح عمر دعا عليا ، وعثمان ، وسعدا ، وعبد الرحمن ، والزبير ، فقال لهم : إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ، وقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنكم راض ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخافكم فيما بينكم ، فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها . ووضع رأسه وقد نزفه الدم .
فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقال عبد الله بن عمر : سبحان الله ! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد . فسمعه عمر فانتبه وقال : [ ألا ] أعرضوا عن هذا ، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام ، وليصل بالناس صهيب ، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ، ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر ، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم ، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم ، ومن لي بطلحة ؟ فقال : أنا لك به ولا يخالف - إن شاء الله تعالى - . فقال سعد بن أبي وقاص عمر : أرجو أن لا يخالف - إن شاء الله - ، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين : علي أو عثمان ، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي علي ففيه دعابة ، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق ، وإن تولوا سعدا فأهله هو ، وإلا فليستعن به الوالي ، فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة ، ونعم ذو الرأي ، فاسمعوا منه وأطيعوا . عبد الرحمن بن عوف
وقال : يا لأبي طلحة الأنصاري أبا طلحة ، إن الله طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم .
وقال : إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا . للمقداد بن الأسود
[ ص: 442 ] وقال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام ، وأدخل هؤلاء الرهط بيتا وقم على رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس . عبد الرحمن بن عوف
فخرجوا ، فقال علي لقوم معه من بني هاشم : إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا ، وتلقاه عمه العباس فقال : عدلت عنا ! فقال : وما علمك ؟ قال : قرن بني عثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن ، فسعد لا يخالف ابن عمه ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني . فقال له العباس : لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا لما أكره ، أشرت عليك عند وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت ، فأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت ، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت ، احفظ عني واحدة : كلما عرض عليك القوم فقل : لا ، إلا أن يولوك ، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا ، وايم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير ! فقال علي : أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى ، ولئن مات ليتداولنها بينهم ، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون ، ثم تمثل :
حلفت برب الراقصات عشية غدون خفافا فابتدرن المحصبا ليختلين رهط ابن يعمر قارنا
نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه ، فقال أبو طلحة : لن تراع أبا الحسن .
فلما مات عمر وأخرجت جنازته صلى عليه صهيب ، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت ، وقيل : في بيت المال ، وقيل : في حجرة المسور بن مخرمة عائشة بإذنها ، وطلحة غائب ، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم ، وجاء عمرو بن العاص فجلسا بالباب ، فحصبهما والمغيرة بن شعبة سعد وأقامهما وقال : تريدان أن تقولا : حضرنا وكنا في [ ص: 443 ] أهل الشورى ! فتنافس القوم في الأمر ، وكثر فيهم الكلام ، فقال أبو طلحة : أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تتنافسوها ، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون ! فقال عبد الرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد . فقال : فأنا أنخلع منها . فقال عثمان : أنا أول من رضي . فقال القوم : قد رضينا . وعلي ساكت . فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقا لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة نصحا . فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم ، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله ، فقال لعلي : تقول إني أحق من حضر بهذا الأمر ; لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد ، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك ، فلم تحضر ، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به ؟ قال : عثمان . وخلا بعثمان فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف ، وصهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وابن عمه ، ولي سابقة وفضل ، فأين يصرف هذا الأمر عني ؟ ولكن لو لم تحضر ؛ أي هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟ قال : علي .
ولقي علي سعدا فقال له : ( اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبرحم عمي حمزة منك أن تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا .
ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم ، حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها تستكمل الأجل ، أتى منزل ، فأيقظه وقال له : لم أذق في هذه الليلة كبير غمض ، انطلق فادع المسور بن مخرمة الزبير وسعدا . فدعاهما . فبدأ بالزبير فقال له : خل بني عبد مناف وهذا الأمر . قال : نصيبي لعلي . وقال لسعد : اجعل نصيبك لي . فقال : إن اخترت نفسك فنعم ، وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي ، أيها الرجل ، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا . فقال له : قد خلعت نفسي على أن أختار ، ولو لم أفعل لم أردها ، إني رأيت روضة خضراء كثيرة العشب ، فدخل فحل ما رأيت أكرم منه فمر كأنه سهم ، لم يلتفت إلى شيء منها حتى قطعها لم يعرج ، ودخل بعير يتلوه فاتبع أثره حتى خرج منها ، ثم [ ص: 444 ] دخل فحل عبقري يجر خطامه ، ومضى قصد الأولين ، ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة ، ولا والله لا أكون الرابع ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه .
قال : وأرسل المسور فاستدعى عليا ، فناجاه طويلا وهو لا يشك أنه صاحب الأمر ، ثم نهض ، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتى فرق بينهما الصبح .
قال عمرو بن ميمون : قال لي عبد الله بن عمر : من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف عليا وعثمان ، فقد قال بغير علم ، فوقع قضاء ربك على عثمان . فلما صلوا الصبح جمع الرهط ، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار ، وإلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله ، فقال : أيها الناس ، إن الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم ، فأشيروا علي . فقال عمار : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا . فقال : صدق المقداد بن الأسود عمار ، إن بايعت عليا قلنا : سمعنا وأطعنا . قال ابن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان . فقال عبد الله بن أبي ربيعة : صدقت إن بايعت عثمان قلنا : سمعنا وأطعنا . فشتم عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين ؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار : أيها الناس ، إن الله أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ؟ فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سمية ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ! فقال : يا سعد بن أبي وقاص عبد الرحمن ، افرغ قبل أن يفتن الناس . فقال عبد الرحمن : إني قد نظرت وشاورت ، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا ، ودعا عليا وقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده . قال : أرجو أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي ، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي ، فقال : نعم نعمل . فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال : اللهم اسمع واشهد . اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان ، فبايعه .
[ ص: 445 ] فقال علي : ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك ، والله كل يوم في شأن ! فقال عبد الرحمن : يا علي ، لا تجعل على نفسك حجة وسبيلا . فخرج علي وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله . فقال المقداد : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون . فقال : يا مقداد ، والله لقد اجتهدت للمسلمين . قال : إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين . فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالعدل ولا أعلم منه ، أما والله لو أجد أعوانا عليه ! فقال عبد الرحمن : يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة . فقال رجل للمقداد : رحمك الله ، من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل ؟ قال : أهل البيت بنو عبد المطلب ، والرجل . فقال علي بن أبي طالب علي : إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر بينها فتقول : إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا ، وما كانت في غيرهم تداولتموها بينكم .
وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فقيل له : بايعوا لعثمان . فقال : كل قريش راض به ؟ قالوا : نعم . فأتى عثمان ، فقال له عثمان : أنت على رأس أمرك وإن أبيت رددتها . قال : أتردها ؟ قال : نعم . قال : أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم . قال : قد رضيت لا أرغب عما أجمعوا عليه . وبايعه .
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن : يا أبا محمد قد أصبت أن بايعت عثمان . وقال لعثمان : ولو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا . فقال عبد الرحمن : كذبت يا أعور ، لو بايعت غيره لبايعته ، ولقلت هذه المقالة . قال : وكان المسور يقول : ما رأيت أحدا بذ قوما فيما دخلوا فيه بمثل ما بذهم عبد الرحمن .
قلت : قوله : إن عبد الرحمن صهر عثمان ، يعني : عبد الرحمن تزوج ، وهي أخت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط عثمان لأمه ، خلف عليها عقبة بعد عثمان .
وقد ذكر أبو جعفر رواية أخرى في الشورى عن ، وهي تمام [ ص: 446 ] حديث مقتل المسور بن مخرمة عمر ، وقد تقدم ، والذي ذكره هاهنا قريب من الذي تقدم آنفا ، غير أنه قال : لما دفن عمر جمعهم عبد الرحمن وخطبهم وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق ، فتكلم عثمان فقال : الحمد لله الذي اتخذ محمدا نبيا ، وبعثه رسولا ، وصدقه وعده ، ووهب له نصره على كل من بعد نسبا أو قرب رحما ، - صلى الله عليه وسلم - ، جعلنا الله له تابعين ، وبأمره مهتدين ، فهو لنا نور ، ونحن بأمره نقوم عند تفرق الأهواء ومجادلة الأعداء ، جعلنا الله بفضله أئمة ، وبطاعته أمراء ، لا يخرج أمرنا منا ، ولا يدخل علينا غيرنا ، إلا من سفه الحق ، ونكل عن القصد ، وأحر بها يا ابن عوف أن تترك ، وأجدر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك ، فأنا أول مجيب لك وداع إليك وكفيل بما أقول زعيم ، وأستغفر الله لي ولكم .
ثم تكلم الزبير بعده فقال : أما بعد فإن داعي الله لا يجهل ، ومجيبه لا يخذل عند تفرق الأهواء ولي الأعناق ، ولن يقصر عما قلت إلا غوي ، ولن يترك ما دعوت إليه إلا شقي ، ولولا حدود لله فرضت ، وفرائض لله حدت ، تراح على أهلها وتحيا ولا تموت ، لكان الموت من الإمارة نجاة ، والفرار من الولاية عصمة ، ولكن لله علينا إجابة الدعوة وإظهار السنة ، لئلا نموت موتة عمية ، ولا نعمى عمى الجاهلية ، فأنا مجيبك إلى ما دعوت ، ومعينك على ما أمرت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله لي ولكم .
ثم تكلم سعد فقال بعد حمد الله : وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، أنارت الطرق واستقامت السبل ، وظهر كل حق ، ومات كل باطل ، إياكم أيها النفر وقول الزور ، وأمنية أهل الغرور ، وقد سلبت الأماني قوما قبلكم ، ورثوا ما ورثتم ونالوا ما نلتم فاتخذهم الله عدوا ، ولعنهم لعنا كبيرا . قال الله - تعالى - : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ) إلى قوله : ( لبئس ما كانوا يفعلون ) ، إني نكبت قرني وأخذت سهمي الفالج وأخذت ما ارتضيت لنفسي ، فأنا به كفيل وبما أعطيت عنه زعيم ، والأمر إليك يا لطلحة بن عبيد الله ابن عوف بجهد النفس وقصد النصح ، وعلى الله قصد السبيل ، وإليه الرجوع ، وأستغفر الله لي ولكم ، وأعوذ بالله من مخالفتكم .
[ ص: 447 ] ثم تكلم فقال : الحمد لله الذي بعث علي بن أبي طالب محمدا منا نبيا ، وبعثه إلينا رسولا ، فنحن بيت النبوة ، ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ، ونجاة لمن طلب ، لنا حق إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى ، لو عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدا لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتى نموت ، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، اسمعوا كلامي وعوا منطقي ، عسى أن تروا ( هذا الأمر ) بعد هذا المجمع تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى تكونوا جماعة ، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة ، ثم قال :
فإن تك جاسم هلكت فإني بما فعلت بنو عبد بن ضجم
مطيع في الهواجر كل غي بصير بالنوى من كل نجم
فقال عبد الرحمن : أيكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر ؟ وذكر قريبا مما تقدم .
ثم جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته ، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان قتل [ قاتل ] أبيه أبا لؤلؤة ، وقتل جفينة رجلا نصرانيا من أهل الحيرة ، كان ظهيرا لسعد بن مالك ، وقتل الهرمزان ، فلما ضربه بالسيف قال : لا إله إلا الله ! فلما قتل هؤلاء أخذه وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند سعد بن أبي وقاص عثمان ، وكان عبيد الله يقول : والله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي ، يعرض بالمهاجرين والأنصار ، وإنما قتل هؤلاء النفر لأن قال غداة قتل عبد الرحمن بن أبي بكر عمر : رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة وجفينة وهم يتناجون ، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، وهو الخنجر الذي ضرب به عمر ، فقتلهم عبيد الله . فلما أحضره عثمان قال : أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق ! فقال علي : أرى أن تقتله . فقال بعض المهاجرين : قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم ! فقال [ ص: 448 ] : إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان . فقال عمرو بن العاص عثمان : أنا وليه ، وقد جعلتها دية وأحتملها في مالي . وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد الله يقول :
ألا يا عبيد الله ما لك مهرب ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دما والله في غير حله حراما وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه ، والحوادث جمة : نعم اتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
فشكا عبيد الله إلى عثمان زياد بن لبيد ، فنهى عثمان زيادا ، فقال في عثمان :
أبا عمرو عبيد الله رهن فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه وأسباب الخطا فرسا رهان
أتعفو إذ عفوت بغير حق فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زيادا فنهاه وشذبه
وقيل في فداء عبيد الله غير ذلك ، قال الغماذيان بن الهرمزان : كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض ، ( فمر فيروز أبو لؤلؤة بالهرمزان ومعه خنجر ) له رأسان فتناوله منه وقال : ما تصنع به ؟ قال : أسن به . فرآه رجل ، فلما أصيب عمر قال : رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز ، فأقبل عبيد الله فقتله ، فلما ولي عثمان أمكنني منه ، فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي ، إلا أنهم يطلبون إلي فيه ، فقلت لهم : ألي قتله ؟ قالوا : نعم ، وسبوا عبيد الله ، قلت لهم : أفلكم منعة ؟ قالوا : لا ، وسبوه ، فتركته لله ولهم ، فحملوني ، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الناس .
والأول أصح في إطلاق عبيد الله لأن عليا لما ولي الخلافة أراد قتله ، فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي .