الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 399 ] السابعة : قال : لزيد علي ألف وزعم أنه وديعة ، فله حالان .

                                                                                                                                                                        الأول : أن يذكره منفصلا ، بأن أتى بألف بعد إقراره ، وقال : أردت هذا وهو وديعة عندي ، وقال المقر له : هو وديعة ولي عليك ألف آخر دينا ، وهو الذي أردته بإقرارك ، فهل القول قول المقر له ، أو المقر ؟ فيه قولان . أظهرهما : الثاني وقيل به قطعا ؛ لأن قوله : علي ، يحتمل أن يريد به : عندي ، ويحتمل : إني تعديت فيها فصارت مضمونة علي ، أو علي حفظها . ولو قال : علي ألف في ذمتي ، أو دينا ، ثم جاء بألف وفسر كما ذكرنا ، لم يقبل على المذهب ، والقول قول المقر له بيمينه ؛ لأن العين لا تثبت في الذمة . وقيل : في قبوله وجهان .

                                                                                                                                                                        ثم قال الإمام : إذا قبلنا التفسير بالوديعة ، قال الأصحاب : الألف مضمونة ، وليس بأمانة ؛ لأن قوله : علي ، تتضمن الالتزام . فإن ادعى تلف الألف الذي يزعم أنه وديعة ، لم يسقط عنه الضمان ، وإن ادعى رده ، لم يقبل ؛ لأنه ضامن ، وإنما يصدق الأمين . وهذا الذي قاله الإمام ، مشكل دليلا ونقلا . أما الدليل ، فلأن لفظة " علي " ، كما يجوز أن يراد بها مصيرها مضمونة لتعديه ، فيجوز أن يريد : وجوب حفظها ، ويجوز أن يريد : عندي ، كما سبق ، وهذان لا ينافيان الأمانة . وأما النقل ، فمقتضى كلام غيره ، أنه إذا ادعى تلفه بعد الإقرار ، صدق ، وقد صرح به صاحب " الشامل " في موضعين من الباب .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يذكره متصلا ، فيقول : لفلان علي ألف وديعة ، فيقبل على المذهب . وقال أبو إسحاق : على قولين ، كقوله : ألف قضيته . وإذا قبلنا فأتى بألف ، وقال : هو هذا ، قنع به ، فإن لم يأت بشيء ، وادعى التلف أو الرد ، قبل على الأصح . وأما إذا قال : له معي أو عندي ألف ، فهو مشعر بالأمانة ، فيصدق [ ص: 400 ] في قوله : إنه كان وديعة ، وفي دعوى التلف والرد . ولو قال : له عندي ألف درهم مضاربة دينا أو وديعة دينا ، فهو مضمون عليه ، ولا يقبل قوله في دعوى الرد والتلف ، نص عليه . ووجهوه بأن كونه دينا عبارة عن كونه مضمونا . فإن قال : أردت أنه دفعه إلي مضاربة أو وديعة بشرط الضمان ، لم يقبل قوله ؛ لأن شرط الأمانة لا يوجب الضمان ، هذا إذا فسر منفصلا . فإن فسره متصلا ، ففيه قولا تبعيض الإقرار . ولو قال : له عندي ألف عارية ، فهو مضمون عليه ، صححنا إعارة الدراهم أو أفسدناها ؛ لأن الفاسد كالصحيح في الضمان . ولو قال : دفع إلي ألفا ، ثم فسره بوديعة ، وادعى تلفها في يده ، صدق بيمينه . وكذا لو قال : أخذت منه ألفا . وقال القفال في " أخذت " : لو ادعى المأخوذ منه أنه غصبه ، صدق بيمينه في الغصب . والصحيح : أنه كقوله : دفع إلي .

                                                                                                                                                                        الثامنة : قال : هذه الدار لك عارية ، فهو إقرار بالإعارة ، وله الرجوع . وقال صاحب " التقريب " : قوله " لك " إقرار بالملك ، فذكر العارية بعده ينافيه ، فيكون على قولي تبعيض الإقرار . والمذهب الأول . ولو قال : هذه الدار لك هبة عارية بإضافة الهبة إلى العارية ، أو هبة سكنى ، فهو كما لو قال : لك عارية ، بلا فرق .

                                                                                                                                                                        التاسعة : الإقرار بالهبة لا يتضمن الإقرار بقبضها على المذهب ، وبه قطع الجمهور . وفي " الشامل " : فيه خلاف إذا كانت العين في يد الموهوب له ، وقال : أقبضتني . ولو قال : وهبته وخرجت إليه منه ، فقد سبق أن الأصح أنه ليس بإقرار بالقبض ، وكذا لو قال : وهبت له وملكها ، قاله البغوي . ولو أقر بالقبض ، ثم ذكر لإقراره تأويلا أو لم يذكر ، فهو كما ذكرنا في الرهن إذا قال : رهنت وأقبضت ثم عاد فأنكر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 401 ] العاشرة : لو أقر ببيع أو هبة وقبض ، ثم قال : كان ذلك فاسدا ، أو أقررت لظني الصحة ، لم يصدق ، لكن له تحليف المقر له ، فإن نكل ، حلف المقر وحكم ببطلان البيع والهبة . ولو أقر بإتلاف مال [ على إنسان ] وأشهد عليه ، ثم قال : كنت عازما على الإتلاف فقدمت الإشهاد على الإتلاف ، لم يلتفت إليه ، بخلاف ما لو أشهد عليه بدين ثم قال : كنت عازما على أن أستقرض منه ، فقدمت الشهادة على الاستقراض ، قبل للتحليف ؛ لأن هذا معتاد ، بخلاف ذاك .

                                                                                                                                                                        الحادية عشرة : أقر عجمي بالعربية وقال : لم أفهم معناه ، لكن لقنت ، صدق بيمينه إن كان ممن يجوز أن لا يعرفه . وكذا الحكم في جميع العقود والحلول . ولو ادعى أنه أقر وهو صبي أو مجنون ، أو مكره ، فقد سبق بيانه مع ما يتعلق به في آخر الباب الأول .

                                                                                                                                                                        الثانية عشرة : قال : غصبت هذه الدار من زيد ، بل من عمرو ، أو قال : غصبتها من زيد ، وغصبها زيد من عمرو ، أو قال : هذه الدار لزيد ، بل لعمرو ، سلمت الدار إلى زيد . وفي غرمه لعمرو قولان . أظهرهما عند الأكثرين : يغرم . وفي الصورة الثالثة طريقة جازمة بأن لا غرم ؛ لأنه لم يقر بجناية في ملك الغير ، بخلاف الأوليين . ثم قيل : القولان فيما إذا انتزعها الحاكم من يده وسلمها إلى زيد . فأما إذا سلمها بنفسه ، فيغرم قطعا . وقيل : القولان في الحالين .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح طردهما في الحالين ، قاله أصحابنا . ويجري الخلاف ، سواء والى بين الإقرار لهما ، أم فصل بفصل قصير أو طويل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية