الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الأمر الثالث : الجناية ، وهي ضربان .

                                                                                                                                                                        الأول : جني على العبد المرهون ، فأقر رجل أنه الجاني ، فإن صدقه المتراهنان أو كذباه لم يخف حكمه . وإن صدقه الراهن فقط ، أخذ الأرش وفاز به ، فليس للمرتهن التوثق به . وإن صدقه المرتهن فقط ، أخذ الأرش وكان مرهونا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 119 ] فإن قضى الدين من غيره ، أو أبرأه المرتهن ، فالأصح : أنه يرد الأرش إلى المقر . والثاني : يجعل في بيت المال ; لأنه مال ضائع لا يدعيه أحد .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : جناية المرهون ، والنزاع في جنايته ، يقع تارة بعد لزوم الرهن ، وتارة قبله .

                                                                                                                                                                        الحال الأول : بعده ، فإذا أقر المرتهن بأنه جنى ، ووافقه العبد أم لا ، فالقول قول الراهن مع يمينه . وإذا بيع في دين المرتهن لم يلزمه تسليم الثمن إليه بإقراره السابق . ولو أقر الراهن بجنايته ، وأنكر المرتهن ، فالقول قوله . وإذا بيع في الدين ، فلا شيء للمقر له على الراهن . وحكى ابن كج وجها : أنه يقبل إقرار الراهن ، ويباع العبد في الجناية ، ويغرم الراهن للمرتهن .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : تنازعا في جنايته قبل لزوم الرهن ، فأقر الراهن بأنه كان أتلف مالا ، أو جنى جناية توجب المال ، فإن لم يعين المجني عليه ، أو عينه فلم يصدقه ، أو لم يدع ذلك ، فالرهن مستمر بحاله . وإن عينه وادعاه المجني عليه ، نظر ، إن صدقه المرتهن ، بيع في الجناية ، والمرتهن بالخيار إن كان الرهن مشروطا في بيع . وإن كذبه ، فقولان . أظهرهما : لا يقبل قول الراهن ، صيانة لحق المرتهن .

                                                                                                                                                                        والثاني : يقبل ; لأنه مالك . ويجري القولان فيما لو قال : كنت غصبته ، أو اشتريته شراء فاسدا ، أو بعته ، أو وهبته وأقبضته وأعتقته . ولا حاجة في صورة العتق إلى تصديق العبد ودعواه ، بخلاف المقر له في باقي الصور . وفي الإقرار بالعتق قول ثالث : أنه إن كان موسرا ، نفذ ، وإلا ، فلا ، كالإعتاق . ونقل الإمام هذا القول في جميع هذه الصور . فإن قلنا : لا يقبل إقرار الراهن ، فالقول في بقاء الرهن قول المرتهن مع يمينه ، ويحلف على نفي العلم بالجناية . وإذا حلف واستمر الرهن ، فهل يغرم الراهن للمجني عليه ؟ قولان . قال الأئمة أظهرهما : يغرم كما لو قبله ; لأنه حال بينه وبين حقه ، وهما كالقولين فيمن أقر بالدار لزيد ، ثم لعمرو ، [ ص: 120 ] هل يغرم لعمرو ؟ ويعبر عنهما بقولي الغرم للحيلولة ; لأنه بإقراره الأول حال بين من أقر له ثانيا وبين حقه .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا : يغرم ، طولب في الحال إن كان موسرا . وإن كان معسرا فإذا أيسر . وفيما يغرم للمجني عليه ؟ طريقان . أحدهما : على قولين . أظهرهما : الأقل من قيمته وأرش الجناية . وثانيهما : الأرش بالغا ما بلغ . والطريق الثاني وهو المذهب وبه قال الأكثرون : يغرم الأقل قطعا ، كأم الولد ، لامتناع البيع بخلاف القن . وإذا قلنا : لا يغرم الراهن ، فإن بيع في الدين ، فلا شيء عليه . لكن لو ملكه ، لزمه تسليمه في الجناية ، وكذا لو انفك رهنه . هذا كله إذا حلف المرتهن ، فإن نكل ، فعلى من ترد اليمين ؟ قولان . ويقال : وجهان . أحدهما : على الراهن ; لأنه مالك العبد ، والخصومة تجري بينه وبين المرتهن . وأظهرهما : على المجني عليه ; لأن الحق له ، والراهن لا يدعي لنفسه شيئا . فإذا حلف المردود عليه منهما ، بيع العبد في الجناية ، ولا خيار للمرتهن في فسخ البيع المشروط فيه ; لأن فواته حصل بنكوله . ثم إن كان يستغرق الواجب قيمته ، بيع كله ، وإلا فبقدر الأرش . وهل يكون الباقي رهنا ؟ وجهان . أصحهما : لا ; لأن اليمين المردودة كالبينة ، كالإقرار بأنه كان جانيا في الابتداء ، فلا يصح رهن شيء منه . وإذا رددنا على الراهن ، فنكل ، فهل يرد على المجني عليه ؟ قولان . ويقال : وجهان . أحدهما : نعم لأن الحق له . وأصحهما : لا ; لأن اليمين لا ترد مرة بعد أخرى . فعلى هذا ، نكول الراهن كحلف المرتهن في تقرير الرهن . وهل يغرم الراهن للمجني عليه ؟ فيه القولان . وإن رددناه على المجني عليه فنكل ، قال الشيخ أبو محمد : تسقط دعواه ، وانتهت الخصومة .

                                                                                                                                                                        وطرد العراقيون في الرد منه على الراهن الخلاف المذكور في عكسه . وإذا لم ترد ، لا يغرم له الراهن ، قولا واحدا ، وتحال الحيلولة على نكوله ، هذا تمام التفريع على أحد القولين في أصل المسألة ، وهو أن الراهن لا يقبل إقراره . فإن قبلناه ، فهل يحلف ، أم يقبل بلا يمين ؟ قولان ، أو وجهان . أحدهما : [ ص: 121 ] لا يحلف ; لأن اليمين للزجر ليرجع الكاذب . وهنا لا يقبل رجوعه . وأصحهما عند الشيخ أبي حامد ومن وافقه : يحلف لحق المرتهن ، ويحلف على البت . وسواء حلفناه ، أم لا ، فيباع العبد في الجناية كله أو بعضه على ما سبق ، وللمرتهن الخيار في فسخ البيع . وإن نكل ، حلف المرتهن ، لأنا إنما حلفنا الراهن لحقه . وفي فائدة حلفه قولان حكاهما الصيدلاني وغيره . أظهرهما : أن فائدته : تقدير الرهن في العبد على ما هو قياس الخصومات .

                                                                                                                                                                        والثاني : فائدته : أن يغرم الراهن قيمته ، ليكون رهنا مكانه ، ويباع العبد في الجناية بإقرار الراهن . فإن قلنا بالأول ، فهل يغرم الراهن للمقر له لكونه حال بنكوله بينه وبين حقه ؟ فيه القولان السابقان . وإن قلنا بالثاني ، فهل للمرتهن الخيار في فسخ البيع ؟ وجهان . أصحهما : نعم ، لفوات العين المشروطة . والثاني : لا ، لحصول الوثيقة بالقيمة . وإن نكل المرتهن ، بيع العبد في الجناية ، ولا خيار له في فسخ البيع ، لا غرم على الراهن . وجميع ما ذكرناه مبني على أن رهن الجاني لا يصح ، فإن صححناه ، فقيل : يقبل إقراره قطعا ، فيغرم المجني عليه ، ويستمر الرهن . وقال آخرون : بطرد القولين . ووجه المنع : أنه يحل بلزوم الرهن ; لأن المجني عليه يبيع المرهون لو عجز عن تغريم الراهن .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أقر السيد عليه بجناية توجب القصاص لم يقبل إقراره على العبد ، فلو قال ، ثم عفا على مال ، فهو كما لو أقر بما يوجب المال .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أقر بالعتق وقلنا : لا يقبل ، فالمذهب والمنصوص : أنه يجعل كإنشاء الإعتاق . [ ص: 122 ] وفيه الأقوال ; لأن من ملك إنشاء أمر ، قبل إقراره به . ونقل الإمام في نفوذه وجهين ، مع قولنا : ينفذ الإنشاء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        رهن الجارية الموطوءة جائز ، ولا يمنع من التصرف ، لاحتمال الحمل . فإذا رهن جارية ، فأتت بولد ، فإن كان الانفصال لدون ستة أشهر من الوطء ، أو لأكثر من أربع سنين ، فالرهن بحاله ، والولد مملوك له ; لأنه لا يلحق به . وإن كان لستة أشهر فأكثر إلى أربع سنين ، فقال الراهن : هذا الولد مني ، وكنت وطئتها قبل لزوم الرهن ، فإن صدقه المرتهن ، أو قامت بينة ، فهي أم ولد له ، والرهن باطل ، وللمرتهن فسخ البيع المشروط فيه رهنها . وإن كذبه ولا بينة ، ففي قبول إقراره لثبوت الاستيلاد ، قولان ، كإقراره بالعتق ونظائره ، والتفريع كما سبق . وعلى كل حال ، فالولد حر ثابت النسب عند الإمكان . ولو لم يصادف ولدا في الحال ، وزعم الراهن أنها ولدت منه قبل الرهن ، ففيه التفصيل السابق والخلاف ، وحيث قلنا : يحلف المجني عليه ، تحلف المستولدة ، فإنها في مرتبته ، وفي العتق يحلف العبد .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو أقر بأنه استولدها بعد لزوم الرهن ، فإن لم ينفذ استيلاده لم يقبل إقراره ، وإلا ، ففيه الوجهان السابقان في إقراره بالعتق ، أصحهما : يقبل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو باع عبدا ، ثم أقر بأنه كان غصبه ، أو باعه ، أو اشتراه شراء فاسدا لم يقبل قوله ; لأنه أقر في ملك الغير ، وهو مردود ظاهرا ، ويخالف إقرار الراهن ، [ ص: 123 ] فإنه في ملكه . وقيل بطرد الخلاف ، والمذهب : الأول . وعلى هذا ، فالقول قول المشتري . فإن نكل فهل الرد على المدعي ، أم على المقر البائع ؟ قولان ولو أجر عبدا ، ثم قال : كنت بعته ، أو أجرته ، أو أعتقته ، ففيه الخلاف المذكور في الرهن ، كبقاء الملك . ولو كاتبه ، ثم أقر بما لا يصح معه كتابة ، قال ابن كج : فيه الخلاف . وقطع الشيخ أبو حامد بأنه لا يقبل ; لأن المكاتب كمن زال ملكه عنه .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية