الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الشرط الثالث : أن يكون ما وكل فيه معلوما من بعض الوجوه ، بحيث لا يعظم الغرر . وسواء كانت الوكالة عامة أو خاصة . أما العامة ففيها طريقة لإمام الحرمين والغزالي ، وطريقة للأصحاب . فأما طريقتهما ، فقالا : لو قال : وكلتك في كل قليل وكثير ، فباطلة . وإن ذكر الأمور المتعلقة به مفصلة ، فقال : وكلتك في بيع أملاكي ، وتطليق زوجاتي ، وإعتاق عبيدي ، صح توكيله . ولو قال : وكلتك في كل أمر هو إلي مما يقبل التوكيل ، ولم يفصل أجناس التصرفات ، فوجهان . أصحهما : البطلان . وأما طريقة سائر الأصحاب ، فقالوا : لو قال : وكلتك في كل قليل وكثير ، أو في كل أموري ، أو في جميع حقوقي ، أو في كل قليل وكثير من أموري ، أو فوضت إليك جميع الأشياء ، أو أنت وكيلي فتصرف في مالي كيف شئت ، لم تصح الوكالة . قالوا : ولو قال : وكلتك في بيع أموالي ، أو استيفاء ديوني ، أو استرداد ودائعي ، أو إعتاق عبيدي ، صحت ، وهذه الطريقة هي الصحيحة نقلا ومعنى ، وقد نص ( عليها ) الشافعي - رضي الله عنه - . وأما الوكالة الخاصة ، ففيها صور .

                                                                                                                                                                        إحداها : لو وكله في بيع جميع أمواله ، أو قضاء ديونه واستيفائها ، صح قطعا . ولا يشترط كون أمواله معلومة على الصحيح . وكلام البغوي ، يقتضي اشتراطه . وفي فتاوى القفال : لو قال : وكلتك في استيفاء ديوني على الناس ، جاز [ ص: 296 ] وإن كان لا يعرف من عليه الدين ، وأنه واحد أو جماعة كثيرة ، وأي جنس ذلك الدين . أما إذا قال : بع بعض مالي ، أو طائفة منه ، أو سهما ، فلا يصح ، لجهالته من الجملة . وكأن الشرط أن يكون الموكل فيه معلوما أو يسهل علمه . ولو قال : بع ما شئت من مالي ، أو اقبض ما شئت من ديوني ، جاز ، ذكراه في " المهذب " و " التهذيب " . وفي " الحلية " ما يخالفه ، فإنه قال : لو قال : بع من رأيت من عبيدي ، لم يصح حتى يميز .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا المذكور عن " المهذب " هو الصحيح المعروف . قال في " التهذيب " : ولا يجوز أن يبيع الكل إلا أن يقبض الكل . وأما قول صاحب الحلية ، ففي " البيان " أيضا عن ابن الصباغ نحوه ، فإنه قال : لو قال : بع ما تراه من مالي ، لم يجز . ولو قال : ما تراه من عبيدي ، جاز ، وكلاهما شاذ ضعيف . وهذا النقل عن " الحلية " ، إن كان المراد به " الحلية " للروياني فغلط ، فإن الذي في حلية الروياني : لو قال : بع من عبيدي هؤلاء الثلاثة من رأيت ، جاز ، ولا يبيع الجميع ؛ لأن ( من ) للتبعيض . ولو وكله أن يزوجه من شاء ، جاز ، ذكره القاضي أبو حامد ، وهذا لفظ الروياني في " الحلية " بحروفه . وقد صرح إمام الحرمين ، والغزالي في " البسيط " بأنه إذا قال : بع من شئت من عبيدي ، يبيع جميعهم ؛ لأن ( من ) للتبعيض . فلو باعهم إلا واحدا ، جاز ، قال أصحابنا : لو قال : بع هذا العبد ، أو هذا ، لم يصح . ولو وكله ليهب من ماله ما يرى ، قال في " الحاوي " : لا يصح . وقياس ما سبق ، أنه يصح . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        الثانية : التوكيل في الشراء . ولا يكفي

                                                                                                                                                                        [ فيه ] أن يقول : اشتر لي شيئا ، أو حيوانا ، أو رقيقا ، بل يشترط أن يبين أنه عبد أو أمة . والنوع ، كالتركي والهندي وغيرهما . ولا يشترط [ ص: 297 ] استقصاء أوصاف السلم ، ولا ما يقرب منها بلا خلاف . فإن اختلفت أصناف نوع اختلافا ظاهرا ، قال الشيخ أبو محمد : لا بد من التعرض للصنف . وأما الثمن ، فلا يشترط بيان قدره على الأصح . وعلى الثاني : يشترط بيان قدره أو غايته ، بأن يقول : من مائة إلى ألف . وحكى صاحب " التقريب " وجها : أنه يصح التوكيل بشراء عبد مطلقا ، وهذا لوجه ، ضعيف جدا . وإذا طرد في قوله : اشتر شيئا ، كان أبعد .

                                                                                                                                                                        قلت : ذكر في " البسيط " ترددا في قوله : اشتر شيئا تفريعا على هذا الوجه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو قال : اشتر لي عبدا كما تشاء ، فقيل : يصح ، كما لو قال في القراض : اشتر من شئت من العبيد . والصحيح الذي عليه الأكثرون : لا يصح . والفرق ، أن المقصود هناك الربح ، والعامل أعرف به . ولو وكله في شراء دار ، يشترط ذكر المحلة والسكة . وفي الحانوت يذكر السوق ، وعلى هذا القياس .

                                                                                                                                                                        قلت : وفي ذكر الثمن ، الوجهان . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        الثالثة : التوكيل في الإبراء ، يشترط فيه علم الموكل إذا قلنا بالأظهر : إنه لا يصح الإبراء عن المجهول كما سبق في كتاب ( الضمان ) . ولا يشترط علم الوكيل على الأصح ، وبه قطع القاضي والغزالي . وفي " المهذب " و " التهذيب " : اشتراط علمه بجنسه وقدره كما لو قال : ( بع ) بما باع به فلان فرسه ، فإنه يشترط لصحة البيع علم الوكيل دون الموكل . ولا يشترط في الإبراء علم من عليه الحق على الصحيح ، والخلاف فيه مبني على ما سبق أن الإبراء إسقاط أو تمليك . فإن قلنا : تمليك ، اشترط علمه كالمتهب ، وإلا ، فلا . ثم إن كانت صيغته : أبرئ فلانا عن ديني ، أبرأه عن جميعه . وإن قال : عن شيء منه ، أبرأه عن قليل منه . وإن قال : عما شئت ، أبرأه عما شاء ، وأبقى شيئا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 298 ] قلت : قوله : أبرئه عن قليل منه ، يعني أقل ما ينطلق عليه اسم الشيء ، كذا صرح به في " التتمة " ، وهو واضح . ولو قال : أبرئه عن جميعه ، فأبرأ عن بعضه ، جاز ، بخلاف ما لو باع بعض ما أمره ببيعه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        الرابعة : قال : وكلتك في مخاصمة خصماي ، وأطلق ، صح على الأصح وصار وكيلا في جميع الخصومات . وقيل : يشترط تعيين من يخاصمه ، لاختلاف الغرض به .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية