الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (27) قوله: الإنجيل : قد تقدم أن الحسن قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران. قال الزمخشري : "أمره أهون من أمر البرطيل والسكين فيمن رواهما بفتح الفاء لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب". وقال أبو الفتح: "هو مثال لا نظير له".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ورهبانية ابتدعوها في انتصابها وجهان، أحدهما: أنها [ ص: 255 ] معطوفة على "رأفة ورحمة". و"جعل" إما بمعنى خلق أو بمعنى صير، و"ابتدعوها" على هذا صفة لـ "رهبانية" وإنما خصت بذكر الابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسب للإنسان فيها بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن، وللإنسان فيها تكسب. إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه بأن ما جعله الله لا يبتدعونه. وجوابه ما تقدم: من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك فيها. وقال أيضا: وقيل: هو معطوف عليها، وابتدعوها نعت له. والمعنى: فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها، ولهذا قال: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني: أنه منصوبة بفعل مقدر يفسره الظاهر وتكون المسألة من الاشتغال. وإليه نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقولون إنه إعراب المعتزلة; وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له، فالرحمة والرأفة لما كانت من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه. والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه، وللرد عليهم موضع آخر هو أليق به من هذا الموضع، وسأبينه إن شاء الله في "الأحكام".

                                                                                                                                                                                                                                      ورد الشيخ عليهم هذا الإعراب من حيث الصناعة وذلك أنه من حق اسم المشتغل عنه أن يصلح للرفع بالابتداء و"رهبانية" نكرة لا مسوغ للابتداء بها، فلا يصلح نصبها على الاشتغال. وفيه نظر; لأنا لا نسلم [ ص: 256 ] أولا اشتراط ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ "سورة أنزلناها" بالنصب على الاشتغال كما قدمت تحقيقه في موضعه. ولئن سلمنا ذلك فثم مسوغ وهو العطف. ومن ذلك قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4235 - عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4236 - تعشى ونجم قد أضاء فمذ بدا     محياك أخفى ضوءه كل شارق



                                                                                                                                                                                                                                      ذكر ذلك الشيخ جمال الدين بن مالك. وقرأ الحسن "رآفة" بزنة فعالة. والرهبانية منسوبة إلى الرهبان فهو فعلان من رهب كقولهم: "الخشيان" من خشي. وقد تقدم معنى هذه المادة في المائدة مستوفى وقرئ بضم الراء. قال الزمخشري : "كأنها نسبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : "والأولى أن يكون منسوبا [ ص: 257 ] إلى رهبان يعني بالفتح وغير; لأن النسب باب تغيير، ولو كان منسوبا لرهبان الجمع لرد إلى مفرده، إلا إن كان قد صار كالعلم فإنه ينسب إليه كالأنصار".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ما كتبناها صفة لـ "رهبانية"، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا ابتغاء رضوان الله فيه أوجه، أحدها: أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله. والمعنى: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضات الله، ويكون "كتب" بمعنى قضى، فصار: كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله، وهذا قول مجاهد. والثاني: أنه منقطع. قال الزمخشري : - ولم يذكر غيره -، أي: ولكنهم ابتدعوها. وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة، قالوا: معناه لم يفرضها عليهم ولكنهم ابتدعوها. الثالث: أنه بدل من الضمير المنصوب في "كتبناها" قاله مكي وهو مشكل: كيف يكون بدلا، وليس هو الأول ولا بعضه ولا مشتملا عليه؟ وقد يقال: إنه بدل اشتمال، لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله، ويصير نظير قولك: "الجارية ما أحببتها إلا أدبها" فـ "إلا أدبها" بدل من الضمير في "أحببتها" بدل اشتمال، وهذا نهاية التمحل لصحة هذا القول والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير المرفوع في "رعوها" عائد على من تقدم. والمعنى: أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها، وإن كان وجد هذا في بعضهم. وقيل: [ ص: 258 ] يعود على الملوك الذين حاربوهم. وقيل: على أحلافهم. و"حق" نصب على المصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية