[ ص: 92 ] منها ما حكاه الإمام ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين قال : وقعت مسألة ما تقول الفقهاء في ، فقالت له نفسه هذا كله من أول نظرة ، فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها ، فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعنى ؟ قال : فكان الجواب : الحمد لله ، لا يجوز هذا لعشرة أوجه : ( أحدها ) أن الله سبحانه وتعالى أمر بغض البصر ، ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد . رجل نظر إلى امرأة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر
( الثاني ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر .
( الثالث ) : أنه صرح بأن له الأولى وليست له الثانية ، ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه مما ليس له .
( الرابع ) : أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا نقصه والتجربة شاهدة به ، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة ولا تحسن المخاطرة بالإعادة .
( الخامس ) : ربما رأى فوق الذي في نفسه فزاد عذابه .
( السادس ) : أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركابه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية .
( السابع ) : أنه لا يعان على بلية إذا أعرض عن امتثال أمر الشارع وتداوى بما حرمه عليه ، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة .
( الثامن ) : أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، ومعلوم أن الثانية أشد سما فكيف يتداوى من السم بالسم .
( التاسع ) : أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوبه كما زعم ، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه ، فإن لم يكن مرضيا تركه ، فإذا يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه لا لله تعالى ، فأين معاملة الله سبحانه وتعالى بتركه المحبوب لأجله .
[ ص: 93 ] العاشر ) : يتبين بضرب مثل مطابق للحال ، وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى طريق ضيق لا ينفذ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج ، فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل ، فإن دخلت خطوة أو خطوتين فصح بها وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها ، فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر وإن توانيت حتى ولجته وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها ، فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل . وكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه ، وإن كرر النظر وتأمل محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة .
وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة ، فلا تزال شجرة الحب تنمى حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به ، فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ، والله أعلم .
ومنها أنه رفعت للإمام أبي الخطاب بن أحمد الكلوذاني من أكابر أئمتنا رقعة فيها :
قل نجم الهدى وقدوة العالم في عصره لا زلت في فتواك مستأمنا لأبي الخطاب
من خدع الشيطان أو مكره ماذا ترى في رشإ أغيد
حاز اللما والدر في ثغره لم يحك بدر التم في حسنه
حتى حكى الزنبور في خصره فهل يجيز الشرع تقبيله
لمستهام خاف من وزره أم هل على المشتاق في ضمه
من غير إدناء إلى صدره إثم إذا ما لم يكن مضمرا
غير الذي قدم من ذكره
يا أيها الشيخ الأديب الذي قد فاق أهل العصر في شعره
تسأل عن تقبيل بدر الدجى وعطف زنديك على نحره
هل ورد الشرع بتحليله لمستهام خاف من وزره
من قارف الفتنة ثم ادعى ال عصمة قد نافق في أمره
هل فتنة المرء سوى الضم والت قبيل للحب على ثغره
[ ص: 94 ] وهل دواعي ذلك المشتهى إلا عناق البدر في خدره
وبذله ذاك لمشتاقه يزري على هاروت في سحره
ولا يجيز الشرع أسباب ما يورط المسلم في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى عساك أن تسلم من شره
هذا جواب الكلوذاني قد جاء يرجو الله في أجره
فإن احتمال مفسدة ألم الحب مع غض البصر وعدم تقبيله وضمه أقل من مفسدة النظر ونحوه ، فإن هذه المفسدة أعني مفسدة النظر ونحوه تجر إلى هلاك القلب وفساد الدين ، وغاية ما يقدر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت تفاديا عن التعرض للحرام .
فأين إحدى المفسدتين من الأخرى ؟ على أن النظر ونحوه لا يمنع السقم والموت الحاصل بسبب الحب بل يزيد الحب بذلك كما قال : المتنبي
فما صبابة مشتاق على أمل من الوصال كمشتاق بلا أمل
قل للإمام مسألة جاءت إليك وما خلق سواك لها أبي الخطاب
ماذا على رجل رام الصلاة فمذ لاحت لناظره ذات الجمال لها
قل للأديب الذي وافى بمسألة سرت فؤادي لما أن أصخت لها
إن الذي فتنته عن عبادته خريدة ذات حسن فانثنى ولها
إن تاب ثم قضى عنه عبادته فرحمة الله تغشى من عصى ولها
قال في الداء والدواء : هو من أكابر العلماء التقى هو وأبو العباس بن سريج الإمام المشهور في مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير ، فتناظرا في مسألة من الإيلاء ، [ ص: 95 ] فقال له ابن سريج : أنت بأن تقول من دامت لحظاته كثرت حسراته أحذق منك بالكلام على الفقه ، فقال : لئن كان ذلك فإني أقول :
أنزه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه يصب على الصخر الأصم تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري فلولا اختلاسي وده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم فلست أرى ودا صحيحا مسلما
ومطاعم كالشهد في ثغماته قد بت أمنعه لذيذ سناته
صبا به وبحسنه وحديثه وأنزه اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ولى بخاتم ربه وبراته
أنزه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي أن تنال محرما
وذكر ابن القيم في الداء والدواء أن ابن داود هذا رفعت إليه فتيا مضمونها :
يا ابن داود يا فقيه العراق أفتنا في فواتك الأحداق
هل عليها بما أتت من جناح أم حلال لها دم العشاق
عندي جواب مسائل العشاق فاسمعه من قرح الحشا مشتاق
لما سألت عن الهوى هيجتني وأرقت دمعا لم يكن بمراق
إن كان معشوق يعذب عاشقا كان المعذب أنعم العشاق
قال صاحب كتاب منازل الأحباب شهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد صاحب الإنشاء ، وقلت في جواب البيتين على وزنهما مجيبا للسائل : [ ص: 96 ]
قل لمن جاء سائلا عن لحاظ هن يلعبن في دم العشاق
ما على السيف في الورى من جناح إن ثني الحد عن دم مهراق
وسيوف اللحاظ أولى بأن نصفح عما جنت على العشاق
إنما كل من قتلن شهيد ولهذا يفنى ضنا وهو باق
قال : بلغني عن بعض الأشراف أنه اجتاز بمقبرة وإذا بجارية حسناء كأنها البدر أو أسنى وعليها ثياب سود ، فنظر إليها فعلقت بقلبه فكتب إليها :
قد كنت أحسب أن الشمس واحدة والبدر في نظري بالحسن موصوف
حتى رأيتك في أثواب ثاكلة سود وصدغك فوق الخد معطوف
فرحت والقلب مني هائم دنف والكبد حرى ودمع العين مذروف
ردي الجواب ففيه الشكر واغتنمي وصل المحب الذي بالحب مشغوف
إن كنت ذا حسب ذاك وذا نسب إن الشريف بغض الطرف معروف
إن الزناة أناس لا خلاق لهم فاعلم بأنك يوم الدين موقوف
واقطع رجاك لحاك الله من رجل فإن قلبي عن الفحشاء مصروف
والآن فقد شغلني حبه عن حب غيره ، فقالت له : أحسنت ، ثم طافت وأنشدت :
فطفنا فلاحت في الطواف لوائح غنينا بها عن كل مرأى ومسمع
أيها الزاني بعيني هـ وفي الطرف الحتوف
إن ترد وصلا فقد أمكنك الظبي الألوف
إن تريني زاني العينين فالفرج عفيف ليس إلا النظر الفاتر والشعر الظريف
قد أردناك فألفيناك إنسانا عفيفا فتأبيت فلا زلت لقيديك حليفا
ما تأبيت لأني كنت للظبي عيوفا غير أني خفت ربا كان بي برا لطيفا
وهذه عادة الله في خلقه ، من ترك شيئا لله عز وجل عوضه الله خيرا منه أو بعينه ، والله الموفق .