( الثالث ) : قد أجرى الله العادة وهو الفاعل المختار أن يوسع الدنيا على أهل الجهل والرقاعة ، والحماقة والخلاعة ، ويضيقها على أهل العلم والحلم ، والأدب والفهم قال الحكماء : والحكمة في هذا يعني أن الفضلاء يقلل لهم ، والجهلاء يفاض عليهم لئلا يتوهم الفضلاء أن الفضل يرزقهم ، وإنما يرزقهم الله تعالى .
وأقول : النفوس إما علوية ملكية ، همها طلب معالي الأمور ونفائسها وما يلحقها بعالمها العلوي ، وإما سفلية أرضية ترابية ، غاية مطلبها ومركزها الأمور الترابية الأرضية ، ولا ريب أن الأمور الدنيوية دنية سفلية أرضية ، فبينها وبين النفوس السفلية تمام المناسبة ، وشبه الشيء ينجذب إليه من غير مزيد كلفة ، بخلاف النفوس العلوية ، فبينها وبين الدنيا تمام المباينة ، وإذا فرض بعض اتفاق مخالطة فهي إلى التنافر والتباين أقرب . ومن هذا قول : أبي الطيب المتنبي
أود من الأيام ما لا توده وأشكو إليها بيننا وهي جنده يباعدن حبا يجتمعن ووصله
فكيف بحب يجتمعن وصده أبي خلق الدنيا حبيبا تديمه
فما طلبي منها حبيبا ترده وأسرع مفعول فعلت تغيرا
تكلف شيء في طباعك ضده
وشبه الشيء منجذب إليه وأشبهنا بدنيانا الطغام
أحدهما : قمع إعجابهم بهذا الإذلال .
والثاني : نفع أولئك بثوابهم . ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة ، وهي أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك لم تساكنها بالقلب ، ونبت عنها بالعزم ، ورأت أقرب الأشياء شبها بها مزبلة عليها الكلاب ، وإنما تؤتى لضرورة ، فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه لم يكن للقلب بها متعلق يتمكن فتهون حينئذ .
وقد أكثر الناس من القول في ذلك نثرا ونظما ، ويسندون ذلك للزمان والدهر والدنيا على ضرب من المجاز وإلا فالفاعل هو الله جل شأنه لا غيره سبحانه ، فمن ذلك قول ابن الوردي في لاميته :
قاطع الدنيا فمن عاداتها تخفض العالي وتعلي من سفل
عيشة الزاهد في تحصيلها عيشة الجاهل بل هذا أذل
كم جهول وهو مثر مكثر وعليل مات منها بعلل
كم شجاع لم ينل منها المنى وجبان نال غايات الأمل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصهم لعينه نام عنهم أو تنبه لي
وقال القاضي الفاضل :
ما ضر جهل الجاهلين ولا انتفعت أنا بحذقي
وزيادتي في الحذق فهي زيادتي في نقص رزقي
قد عقلنا والعقل أي وثاق وصبرنا والصبر مر المذاق
كل من كان فاضلا كان مثلي فاضلا عند قسمة الأرزاق
لو أن بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أفلاك السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى ضدان مفترقان أي تفرق
فإذا سمعت بأن محروما أتى ماء ليشربه فغاص فصدق
أو أن محظوظا غدا في كفه عود فأورق في يديه فحقق
وليس رزق الفتى من حسن حيلته لكن حظوظ بأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد يرمي فيرزقه من ليس بالرامي
عتبت على الدنيا وقلت إلى متى تسيئين صنعا مع ذوي الشرف الجلي
أفاقدة الإنصاف حتى عليهم تجودين بالهم الذي ليس ينجلي
فكل شريف من سلالة هاشم بسيئ حظ في مذاهبه ابتلي
ومع كونه في غاية العز والعلا يكون عليه الرزق غير مسهل
فقالت نعم يا بن البتول لأنني خسيسة قدر عن علاكم بمعزل
وأما إساءاتي فذلك أنني حقدت عليكم حين طلقني علي