فإذا علمت ما ذكرنا لك ، وتحققت عظم ما جمعناه ، وفخامة قدر ما نالك ، فلنذكر الكلام على فوائد غض الطرف ، وآفاته وأحكامه ونكباته في مقامات :
( المقام الأول ) في فوائد غض البصر ( إحداها ) تخليص القلب من الحسرة فإن من أطلق نظره دامت حسرته ، فأضر شيء على القلب إرسال البصر ، فإنه يريه ما لا سبيل إلى وصوله ولا صبر له عنه ، وذلك غاية الألم .
قال : الفرزدق
تزود منها نظرة لم تدع له فؤادا ولم يشعر بما قد تزودا فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا
بغير سلاح مثلها حين أقصدا
ومن كان يؤتى من عدو وحاسد فإني من عيني أتيت ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة فما أبقيا لي من رقاد ولا لب
متيم يرعى نجوم الدجى يبكي عليه رحمة عاذله
عيني أشاطت بدمي في الهوى فابكوا قتيلا بعضه قاتله
ألم أقل لك لا تسرق ملاحظه فسارق اللحظ لا ينجو من الدرك
نصبت طرفي له لما بدا شركا فكان قلبي أولى منه بالشرك
( الثالثة ) أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته ، فإذا استنار القلب صحت الفراسة ، فإنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة تظهر فيها المعلومات كما هي ، والنظر بمنزلة التنفس فيها ، فإذا أطلق العبد نظره تنفست الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها كما قيل في ذلك :
مرآة قلبك لا تريك صلاحه والنفس فيها دائما تتنفس
( الرابعة ) أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ، ويسهل عليه أسبابه وذلك سبب نور القلب ، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات ، وانكشف له بسرعة ، ونفذ من بعضها إلى بعض . ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه ، وأظلم ، وانسد عليه باب العلم وأحجم .
( الخامسة ) أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته ، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة . وفي أثر أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ، ولذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما جعله الله لمؤثر هواه على رضاه ، بخلاف من آثر رضا مولاه على هواه ، فإنه في عز الطاعة وحصن التقوى ، بخلاف أهل المعاصي [ ص: 89 ] والأهواء .
قال الحسن : إنهم وإن هملجت بهم البغال ، وطقطقت بهم البراذين ، فإن ذل المعصية لفي قلوبهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقال بعض المشايخ : الناس يطلبون العز في أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله ، فمن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ، ومن عصاه عاداه فيما عصاه فيه . وفي دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت .
( السادسة ) أنه يورث القلب سرورا وفرحة أعظم من الالتذاذ بالنظر ، وذلك لقهره عدوه وقمعه شهوته ونصرته على نفسه ، فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله تعالى وفيهما مضرة نفسه الأمارة بالسوء ، أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منهما ، كما قال بعضهم : والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب . ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسرورا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما . وهنا يمتاز العقل من الهوى .
( السابعة ) أنه يخلص القلب من أسر الشهوة ، فلا أسر أشد من أسر الشهوة والهوى ، قد سلب الحول والقوة ، وعز عليه الدواء ، فهو كما قيل :
كعصفورة في كف طفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
( التاسعة ) أنه يقوي عقله ويثبته ويزيده ، فإرسال البصر لا يحصل إلا من قلة في العقل ، وطيش في اللب ، وخور في القلب ، وعدم ملاحظة للعواقب ، فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ، ومرسل الطرف لو علم ما تجني عواقب طرفه عليه لما أطلق بصره ، ولذا قال بعضهم :
وأعقل الناس من لم يرتكب سببا حتى يفكر ما تجني عواقبه
أكثر من أن تذكر ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد علمت الفوائد والآفات في ضمنها ، فما من فائدة إلا تركها آفة ومفسدة . وقال وفوائد غض البصر وآفات إطلاقه المروذي : قلت رضي الله عنه : الرجل ينظر إلى المملوكة ؟ قال أخاف عليه الفتنة ، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل . لأحمد
وقال رضي الله عنهما : الشيطان من الرجل في ثلاثة : في بصره وقلبه وذكره ، وهو من المرأة في ثلاثة : في بصرها وقلبها وعجزها . والله أعلم . ابن عباس