ولما كانت قريش بالجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال : إني رأيت فيما يرى النائم رجلا أقبل على فرس ومعه بعير له ، فقال : قتل عتبة وشيبة وأبو جهل ، وغيرهم ممن قتل يومئذ - ورأيته ضرب لبة بعيره ثم أرسله في العسكر ، فما بقي خباء إلا أصابه من دمه .
فقال أبو جهل : وهذا أيضا نبي من بني المطلب ، سيعلم غدا من المقتول .
وكان بين طالب بن أبي طالب ، وهو في القوم ، وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : والله قد عرفنا أن هواكم مع محمد . فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع ، وقيل : إنما كان خرج كرها ، فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة ، وهو الذي يقول :
يا رب إما يغوون طالب في مقنب من هذه المقانب فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي ، وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منه ما لبد لهم الأرض ، ولم يمنعهم المسير ، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزله ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا رسول الله ، أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة . قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس لك بمنزل ، انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء سواه من القوم فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا ونملأه ماء ، فنشرب ماء ولا يشربون [ ص: 18 ] ثم نقاتلهم . ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك .
فلما نزل جاءه فقال : سعد بن معاذ يا رسول الله ، نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويحاربون معك . فأثنى عليه خيرا .
ثم بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش ، وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها ، فلما رآها قال : قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ! اللهم فنصرك الذي وعدتني ! اللهم أحنهم الغداة . ورأى عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال : إن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا . اللهم هذه
وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه إيماء ، بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر ، أهداها لهم ، وعرض عليهم المدد بالرجال والسلاح ، فقالت قريش : إن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف ، وإن كنا نقاتل الله كما زعم محمد فما لأحد بالله طاقة . فلما نزلت قريش أقبل جماعة ، منهم ، حتى وردوا حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : حكيم بن حزام اتركوهم ، فما شرب منه رجل إلا قتل يومئذ ، إلا حكيم نجا على فرس له يقال له : الوجيه ، وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه ، وكان يقول إذا اجتهد في يمينه : لا والذي نجاني يوم بدر .
ولما اطمأنت قريش بعثوا عمرو بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين ، فجال بفرسه حولهم ثم عاد فقال : هم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولقد رأيت الولايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، ليس لهم منعة إلا سيوفهم ، والله لا [ ص: 19 ] يقبل رجل منهم إلا يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا أعدادهم ، فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم .
فلما سمع ذلك مشى في القوم ، فأتى حكيم بن حزام عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، هل لك أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي . قال : قد فعلت ، علي دمه وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فلا أخشى أن يفسد أمر الناس غيره . فقام عتبة في الناس فقال : إنكم ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموهم لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ؛ قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته . قال : فانطلقت إلى حكيم بن حزام أبي جهل فوجدته قد نشل درعا وهو يهيئها ، فأعلمته ما قال عتبة ، فقال : انتفخ - والله - سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم ، وقد خافكم عليه .
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له : هذا حليفك يريد أن يرجع إلى مكة بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فانشد خفرتك ومقتل أخيك . فقام عامر وصرخ : واعمراه واعمراه ! فحميت الحرب واستوسق الناس على الشر .
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل : انتفخ سحره ، قال : سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو ! ثم التمس بيضة يدخلها رأسه فما وجد من عظم هامته ، فاعتجر ببرد له .
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، وكان سيئ الخلق ، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه ، أو لأموتن دونه . فخرج إليه حمزة فضربه ، فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض ، ثم حبا إلى الحوض فاقتحم فيه ليبر يمينه ، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .
ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، ودعوا إلى والوليد بن عتبة ، فخرج [ ص: 20 ] إليهم المبارزة عوف ومعوذ ابنا عفراء ، ، كلهم من وعبد الله بن رواحة الأنصار فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار . فقالوا : أكفاء كرام ، وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : حمزة ، قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا علي ، فقاموا ودنا بعضهم من بعض ، فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب - وكان أمير القوم - عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد ، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه ، وكر حمزة وعلي على عتبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ، فلما أتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألست شهيدا يا رسول الله ؟ قال : بلى . قال : لو رآني قم يا أبو طالب لعلم أننا أحق منه بقوله :
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لم نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان هو المستفتح على نفسه .