الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4872 ص: فإن قال قائل: أفيجوز التعزير بمائة؟

                                                قيل له: نعم، قد عزر رسول الله -عليه السلام- بمائة في حديث قد ذكرناه عنه في رجل قتل عبده متعمدا في باب: "حد البكر" في هذا الكتاب.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: هل يجوز التعزير بمائة التي هي منتهى الحد، وينبغي أن يكون التعزير أدنى عددا من الحد؟

                                                والجواب عنه أن يقال: إن الإمام إذا رأى مصلحة في زيادة العدد في التعزير لزيادة التنكيل والردع في المعزر جاز له ذلك، ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قد عزر [ ص: 488 ] ذلك الرجل الذي قتل عبده عمدا بمائة، كما جاء في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده: "أن رجلا قتل عبده عمدا، فجلده النبي -عليه السلام- مائة، ونفاه سنة، ومحى اسمه من المسلمين وأمره أن يعتق رقبة".

                                                فهذا بالاتفاق بين الخصوم لم يكن حدا له لا ينبغي تركه، وإنما كان لزيادة التنكيل لأجل الدعارة، وقد مر الحديث والكلام فيه في باب: "حد البكر".

                                                فإن قيل: روى البخاري: عن عبد الله بن يوسف ، عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن بكير بن عبد الله ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن أبي بردة ، عن أبي موسى قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يقول: لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله" فكيف يجوز التعزير بمائة أو ما فوق العشر؟!

                                                قلت: هذا معناه في حق من يرتدع بالردع، ويؤثر فيه أدنى الزجر، كأشراف الناس وأشراف أشرافهم، وأما السفلة وأسقاط الناس فلا يؤثر فيهم عشر جلدات ولا عشرون، فيعزرهم الإمام بحسب ما يراه، ألا ترى إلى ما روي عن سعيد بن المسيب والزهري، قالا: "إن عمر - رضي الله عنه - ضرب رجلا -دون المائة- وجد مع امرأة بعد العتمة" وروى سفيان بن عيينة ، عن جامع ، عن شقيق قال: "كان لرجل على أم سلمة أم المؤمنين حق، فكتب إليها فحرج عليها، فأمر عمر - رضي الله عنه - بأن يجلد ثلاثين سوطا" .

                                                وعن هذا قال أصحابنا: التعزير على أربع مراتب: تعزير الأشراف: وهم الدهاقين والقواد، وتعزير أشراف الأشراف: وهم الفقهاء والعلوية، وتعزير الأوساط: وهم السوقة، وتعزير الأخساء: وهم السفلة.

                                                فتعزير أشراف الأشراف بالإعلام المجرد، وهو أن يبعث القاضي أمينه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا.

                                                [ ص: 489 ] وتعزير الأشراف: الإعلام والجر إلى باب القاضي والخطاب بالمواجهة.

                                                وتعزير الأوساط: الإعلام والجر والحبس.

                                                وتعزير السفلة: الإعلام والجر والضرب والحبس; لأن المقصود من التعزير: الزجر، وأحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب .

                                                وفي هذا الباب خلاف بين العلماء:

                                                فمذهب الطحاوي -رحمه الله-: أن التعزير ليس له مقدار محدود، ويجوز للإمام أن يبلغ به ما رآه وإن تجاوز به الحدود.

                                                وهو مذهب مالك وأبي ثور وأحد أقوال أبي يوسف .

                                                وقالت طائفة: التعزير مائة جلدة فأقل.

                                                وقالت طائفة: أكثر التعزير مائة جلدة إلا جلدة.

                                                وقالت طائفة: أكثره تسعة وتسعون سوطا فأقل. وهو أحد أقوال أبي يوسف .

                                                وقالت طائفة: أكثره خمسة وتسعون سوطا فأقل. وهو قول ابن أبي ليلى، وأحد أقوال أبي يوسف .

                                                وقالت طائفة: أكثره ثلاثون سوطا.

                                                وقالت طائفة: أكثره عشرون سوطا.

                                                وقالت طائفة: لا يتجاوز بالتعزير تسعة، وهو قول بعض أصحاب الشافعي .

                                                وقالت طائفة: أكثره عشرة أسواط فأقل، لا يجوز أن يتجاوز به أكثر من ذلك. وهو قول الليث بن سعد والشافعي وأصحاب الظاهر.




                                                الخدمات العلمية