الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5983 5984 5985 5986 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الأثر إنما فيه: أن رسول الله -عليه السلام- قال: " الشفعة في كل شرك، بأرض، أو ربع، أو حائط" ولم يقل: إن الشفعة لا تكون إلا في كل شرك، ، فلو قال ذلك نفى أن الشفعة واجبة بغير الشرك، ولكنه إنما أخبر في هذا الحديث أنها واجبة في كل شرك، ولم ينف أن تكون واجبة في غيره، وقد جاء عن جابر بن عبد الله عن النبي -عليه السلام- ما قد زاد على معنى هذا الحديث:

                                                حدثنا أبو بشر الرقي ، قال: ثنا شجاع بن الوليد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: " الجار أحق بشفعة جاره، فإن كان غائبا انتظر، إذا كان طريقهما واحدا". .

                                                حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا سعيد بن منصور ، قال: ثنا هشيم ، قال: أنا عبد الملك ، قال: ثنا عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله.

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال: ثنا إسماعيل بن سالم ، قال: ثنا هشيم ، قال: أنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                ففي هذا الحديث إيجاب الشفعة في المبيع الذي لا شرك فيه بالشرك في الطريق، فلا يجعل واحد من هذين الحديثين مضادا للحديث الآخر، ولكن يثبتان جميعا، ويعمل بهما، فيكون حديث أبي الزبير فيه إخبار عن حكم الشفعة للشريك في الذي بيع منه ما بيع، وحديث عطاء فيه إخبار عن حكم الشفعة في المبيع الذي لا شركة لأحد فيه بالطريق.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن هذا الأثر -أي الحديث- الذي ذكر في هذا الباب الذي رواه أبو الزبير عن جابر إنما [ ص: 187 ] فيه أن رسول الله -عليه السلام- قال: "الشفعة في كل شرك" يعني: الشفعة لغير الشريك; لأنه لم يقل: الشفعة لا تكون إلا في كل شرك، على أنه قد جاء أيضا في حديث عطاء ، عن جابر ثبوت الشفعة في المبيع الذي لا شرك فيه بالشرك في الطريق، ولا منافاة بين حديثي جابر; لأن في حديثه الذي رواه عنه أبو الزبير إخبارا عن حكم الشفعة للشريك في الذي بيع منه.

                                                وفي حديثه الذي رواه عنه عطاء إخبارا عن حكم الشفعة في البيع الذي لا شركة لأحد فيه بالطريق.

                                                فإذا كان كذلك يعمل بالحديثين جميعا ولا يترك أحدهما.

                                                وفيما قاله أهل المقالة الأولى إعمال أحد الدليلين وإهمال الآخر.

                                                ثم إنه أخرج حديث عطاء عن جابر من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي ، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العرزمي ، عن عطاء بن أبي رباح .

                                                وأخرجه الترمذي: نا قتيبة، قال: نا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الجار أحق بشفعته، ينتظر به وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا".

                                                الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود ، عن هشيم بن بشير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر .

                                                وأخرجه أبو داود: عن أحمد بن حنبل ، عن هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدة".

                                                [ ص: 188 ] الثالث: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني ، عن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي شيخ مسلم ، عن هشيم .... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي: عن محمد بن مثنى ، عن يحيى ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر نحوه.

                                                وأخرجه ابن ماجه: عن عثمان بن أبي شيبة ، عن هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر نحوه.

                                                فإن قلت: ما حال هذا الحديث عندهم وما سنده؟

                                                قلت: سنده صحيح على شرط مسلم، ولما أخرجه الترمذي حسنه، وقال: هذا حديث حسن غريب ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر. وقد تكلم شعبة في عبد الملك بن أبي سليمان من أجل هذا الحديث.

                                                وعبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحدا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث، وقد روى وكيع ، عن شعبة ، عن عبد الملك هذا الحديث.

                                                وروى عن ابن المبارك ، عن سفيان الثوري قال: عبد الملك بن أبي سليمان ميزان في العلم.

                                                فإن قيل: قال البيهقي: قال الشافعي: سمعنا بعض أهل العلم يقول: نخاف ألا يكون محفوظا، ثم استدل الشافعي على ذلك برواية أبي سلمة ، عن جابر، قال: قال -عليه السلام-: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". قال: وروى أبو الزبير عن جابر ما يوافق قول أبي سلمة، ويخالف ما روى عبد الملك .

                                                [ ص: 189 ] قلت: في حديث أبي سلمة ، عن جابر زيادة وهي قوله: "وصرفت الطريق" كما رواه البخاري عن محمد بن محبوب ، عن عبد الواحد بن زياد وهشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر: "قضى رسول الله -عليه السلام- بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".

                                                فانتفت الشفعة بمجموع الأمرين، فمقتضاه أنه إذا وقعت الحدود وكان الطريق مشتركا لا تثبت الشفعة، فيثبت بذلك أن الحديثين متفقان لا مختلفان.

                                                وقد أخرج النسائي في "سننه": عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة ، عن الفضل بن موسى ، عن [حسين بن واقد] ، عن أبي الزبير ، عن جابر: "أن النبي -عليه السلام- قضى بالشفعة بالجوار".

                                                وهذا سند صحيح يظهر به أن أبا الزبير روى ما يوافق رواية عبد الملك لا رواية أبي سلمة كما ذكر الشافعي، وتأيد هذا بعدة أحاديث يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

                                                فإن قيل: قال البيهقي: إن شعبة قيل له: تدع حديث عبد الملك وهو حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت.

                                                قلت: كتب الحديث مشحونة بأن شعبة روى عنه، قال الترمذي: روى وكيع ، عن شعبة ، عن عبد الملك هذا الحديث كما ذكرناه آنفا.

                                                فإن قيل: ذكر البيهقي عن جماعة أنهم أنكروا عليه هذا الحديث.

                                                [ ص: 190 ] قلت: ذكر ما فيه "الكمال" عن ابن معين أنه قال: لم يحدث عنه إلا عبد الملك، وقد أنكر عليه الناس، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لا يرد على مثله، وذكر أيضا عن الثوري وابن حنبل، قالا: هو من الحفاظ. وكان الثوري يسميه الميزان، وعن أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت.

                                                وأخرج له مسلم في "صحيحه" وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: روى عنه الثوري وشعبة وأهل العراق، وكان من خيار أهل الكوفة وحفاظهم، والغالب على من يحدث من حفظه أن يهم، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت بأوهام من يهم في روايته، ولو (سلمنا ذلك لزمنا) ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة; لأنهم لم يكونوا معصومين.




                                                الخدمات العلمية