الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5053 5054 5055 ص: والدليل على صحة هذا التأويل: ما قد حكم به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد رسول -عليه السلام- بحضرة أصحابه، فلم ينكره عليه منهم منكر، ومحال أن يكون عند الأنصار من ذلك علم ولاسيما مثل محيصة وقد كان حيا يؤمئذ وسهل بن أبي حثمة فلا يخبرونه به ويقولون: ليس هكذا قضى رسول الله -عليه السلام- لنا على اليهود.

                                                فمما روي عن عمر - رضي الله عنه - في ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: ثنا وهب بن جرير ، قال: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن الحارث بن الأزمع ، أنه قال لعمر : - رضي الله عنه -: "أما ندفع أموالنا عن أيماننا ولا أيماننا عن أموالنا؟ قال: لا، وعقله".

                                                [ ص: 386 ] حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو غسان ، قال: ثنا زهير بن معاوية ، قال: ثنا أبو إسحاق ، عن الحارث بن الأزمع ، قال: "قتل قتيل بين وادعة وحي آخر، والقتيل إلى وادعة أقرب، فقال عمر - رضي الله عنه - لوادعة: : يحلف خمسون رجلا منكم بالله ما قتلنا، ولا نعلم له قاتلا، ثم اغرموا، فقال له الحارث: : نحلف وتغرمنا؟! قال: نعم".

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا يوسف بن عدي ، قال: ثنا عثمان بن مطر ، عن أبي حريز ، عن الشعبي ، عن الحارث الوادعي ، قال: "أصابوا قتيلا بين قريتين، فكتبوا في ذلك إلى عمر بن الخطاب . - رضي الله عنه - فكتب عمر : ( - رضي الله عنه -: أن قيسوا بين القريتين، فأيهما كان إليه أدنى فخذوا قسامة يحلفون بالله ثم غرموا الدية، قال الحارث: : فكنت فيمن أقسم ثم غرمنا الدية.

                                                فهذه القسامة التي حكم بها أصحاب رسول الله -عليه السلام-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي الدليل على صحة تأويل أهل المقالة الثانية المذكور: ما حكم به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد النبي -عليه السلام- ما ذهبوا إليه.

                                                وأخرجه من ثلاث طرق:

                                                الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن شعبة بن الحجاج ، عن الحكم بن عتيبة ، عن الحارث بن الأزمع الهمداني الكوفي، وثقه ابن حبان، وذكره في التابعين، وذكره أبو عمر وغيره في الصحابة.

                                                وأخرجه عبد الرزاق: عن الثوري ، عن منصور ، عن الحكم ، عن الحارث بن الأزمع نحوه.

                                                الثاني: عن فهد بن سليمان ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن الحارث بن الأزمع .

                                                [ ص: 387 ] وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": نا وكيع، قال: ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث بن الأزمع قال: "وجد قتيل باليمن بين وادعة وأرحب، فكتب عامل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إليه فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أن قس ما بين الحيين فإلى أيهما كان أقرب فخذهم به، قال: فقاسوا فوجدوه أقرب إلى وادعة، فأخذنا وأغرمنا وأحلفنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين أتحلفنا وتغرمنا؟ قال: نعم، قال: فأحلف منا خمسين رجلا بالله: ما فعلت ولا علمت له قاتلا.

                                                الثالث: عن محمد بن خزيمة ، عن يوسف بن عدي، شيخ البخاري ، عن عثمان بن مطر الشيباني أبي الفضل البصري ، عن أبي حريز -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء المهملة، بعدها ياء ساكنة، وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن حسين الأزدي البصري .

                                                عن عامر الشعبي .

                                                وهذا إسناد معلول بعثمان بن مطر، فإنه ضعفه يحيى وأبو داود والنسائي، وعن يحيى: ليس بشيء.

                                                وأبو حريز وثقه ابن حبان ويحيى في رواية، وضعفه في أخرى، وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": نا وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن الشعبي: "أن قتيلا وجد باليمن بين حيين، قال: فقال عمر - رضي الله عنه -: انظروا أقرب الحيين إليه فأحلفوا منهم خمسين رجلا بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، ثم تكون عليهم الدية".

                                                وأخرجه عبد الرزاق: عن أبي بكر بن عبد الله ، عن أبي الزناد ، عن سعيد بن [ ص: 388 ] المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "قال في القتيل يؤخذ في الحي: يقسم خمسون -من الحي الذين وجد فيهم- بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فإن حلفوا برئوا وإن لم يحلفوا أقسم من هؤلاء خمسون بالله: إن دمنا فيكم ثم يغرمون الدية".

                                                وأخرج البيهقي: من حديث أبي عوانة ، عن مغيرة ، عن عامر: "أن قتيلا وجد في خربة من خرب وادعة همدان، فرفع إلى عمر - رضي الله عنه - فأحلفهم خمسين يمينا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، ثم غرمهم الدية، ثم قال: يا معشر همدان حقنتم دماءكم بأيمانكم، فما يبطل دم هذا الرجل المسلم".

                                                وأخرج من حديث الشافعي: عن سفيان ، عن منصور ، عن الشعبي: "أن عمر - رضي الله عنه - كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة: أن يقاس بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه بمكة، وأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم بالدية، قالوا: ما دفعت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا، قال عمر - رضي الله عنه -: كذلك الأمر".

                                                قال البيهقي: فذكر الشافعي في الجواب عنه: ما يخالفون عمر في هذه القضية من الأحكام.

                                                ثم قيل: أفثابت هو؟ قال: لا، إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور ، والحارث مجهول، ونحن نروي عن رسول الله -عليه السلام- بالإسناد الثابت: "أنه بدأ بالمدعين فلما لم يحلفوا قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" وإذ قال: "تبرئكم يهود" فلا يكون عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصار أيمانهم، وداه النبي -عليه السلام- ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم شيئا.

                                                ثم قال البيهقي: قال الربيع المرادي: أخبرني بعض أهل العلم، عن جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي، قال: الحارث الأعور كان كذابا.

                                                [ ص: 389 ] قال: وروي عن مجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عمر ، ومجالد غير محتج به.

                                                وروي عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث بن الأزمع ، عن عمر ، وأبو إسحاق لم يسمعه منه.

                                                روى ابن المديني عن أبي زيد ، عن شعبة، سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارث بن الأزمع: "أن قتيلا وجد بين وادعة وخيوان" فقلت: يا أبا إسحاق، من حدثك؟ قال: مجالد ، عن الشعبي ، عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحاق إلى مجالد، واختلف فيه على مجالد .

                                                قلت: أما مخالفتهم عمر - رضي الله عنه - في تلك الأحكام؛ لأنه قامت عندهم فيها أدلة أقوى من أدلة عمر - رضي الله عنه - وقد ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج أن مخالفه قال: قد تركتم من حديث عمر أشياء؛ لأنه كتب إلى عامله باليمن أن ابعث بهم إلى مكة، وأنتم تقولون: يدفع في الحكومة إلى أقرب القضاة.

                                                وفيه: أنه استحلفهم في الحجر، وأنتم تنكرون أن يستحلف إلا في مجلس الحكم حيث كان.

                                                وفيه: أنه قال لعامله: ابعث إلي بخمسين رجلا، وعندكم الخيار للمدعي.

                                                وفيه: حقنتم بأيمانكم دماءكم. وأنتم تقولون: إن لم يحلفوا لم يقتلوا. ثم أجاب ابن أبان عن ذلك بما ملخصه: أنه أراد أن يتولى الحكم، وأن عامله لا يقوم فيه مقامه؛ لينتشر في البلاد، ويعمل بها من بعده، ولهذا فعله في أشهر المواضع وهو الحجر ليراه أهل الموسم، وينقلوه إلى الآفاق، ولا شك أن نوابه كانوا يقضون في البلاد الثانية، ولو وجب حمل كل أحد إليه لم يكتب إلى أبي موسى وغيره في الأحكام، ولهذا لم يستحلف عمر - رضي الله عنه - والأئمة بعده أحدا في الحجر، وإنما كتب عمر - رضي الله عنه - أن لا يقتل دونه؛ احتياطا واستعظاما بالدم، ولم يقل: ابعث إلي بخمسين تتخيرهم أنت، ولم يكن يولي جاهلا فإنما كتب إلى من [ ص: 390 ] يعلم أن الخيار للمدعين; لأنه لم يستحلف، فكيف يستحلف من لا يريدونه؟ وإنما قال: "حقنتم بأيمانكم دماءكم" لأنهم لو لم يحلفوا حبسوا حتى يقروا فيقتلوا أو يحلفوا، فأيمانهم حقنت دماءهم؛ إذ تخلصوا بها من القتل أو الحبس، كقوله تعالى: ويدرأ عنها العذاب أن تشهد فلو لم تلاعن حبست حتى تلاعن فتنجو أو تقر فترجم.

                                                وأما قوله: "أفثابت هو عندك؟ " أي: قضية عمر - رضي الله عنه -.... إلى آخره.

                                                فنقول: لم يذكر أحد -فيما علمنا- أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي، ولم يذكر سنده في ذلك، وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي ، عن الحارث الوادعي كما مر ذكره عن قريب، وكذلك مجالد رواه عن الشعبي .

                                                ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا، عن عمر - رضي الله عنه - أمارة على أنه هو الواسطة لا الحارث الأعور كما زعم الشافعي .

                                                ورواه أيضا عبد الرزاق: عن الثوري ، عن منصور ، عن الحكم ، عن الحارث بن الأزمع ، والحارث هذا ذكره أبو عمر في الصحابة - رضي الله عنهم - كما ذكرناه. وذكره ابن حبان في "الثقات" التابعين، ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي، بل هو معروف، روى عنه: الضحاك والشعبي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم.




                                                الخدمات العلمية