الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 223 ] باب أسنان الخطأ وتقويمها وديات النفوس والجراح وغيرها

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله فأبان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن الدية مائة من الإبل ، وروي عن سليمان بن يسار قال : إنهم كانوا يقولون دية الخطأ مائة من الإبل عشرون ابنة مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة ( قال الشافعي ) رحمه الله : فبهذا نأخذ .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الدية من الإبل فمائة بعير في العمد ، والخطأ ، وفي عمد الخطأ ، قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانا لقول الله تعالى : ودية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] وكان أول من قضى بها في الجاهلية على ما حكاه ابن قتيبة في كتاب " المعارف " أبو سارة العدواني الذي كان يفيض بالناس من مزدلفة .

                                                                                                                                            وقيل : إن عبد المطلب أول من سنها فجاء الشرع بها واستقر الحكم عليها إلا أن دية العمد مغلظة على الجاني وقد ذكرنا تغليظها ، ودية الخطأ مخففة على العاقلة ، واختلف أهل العلم في صفة تخفيفها ، فقالت طائفة : تكون أرباعا ، واختلف من قال بهذا في صفة أرباعها فحكي عن الحسن البصري أنها خمس وعشرون ابنة مخاض ، وخمس وعشرون ابنة لبون ، وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة .

                                                                                                                                            وبه قال علي بن أبي طالب - عليه السلام - وحكي عن عثمان بن عفان ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنها عشرون ابنة مخاض وعشرون ابن لبون ، وثلاثون ابنة لبون ، وثلاثون حقة ، وذهب الجمهور إلى أنها أخماس لرواية ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دية الخطأ أخماس واختلف من قال بهذا في صفة أخماسها : فذهب الشافعي أنها عشرون ابنة مخاض وعشرون ابنة لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

                                                                                                                                            ومن التابعين عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار ، والزهري . ومن الفقهاء مالك وربيعة والليث بن سعد والثوري .

                                                                                                                                            [ ص: 224 ] وقال أبو حنيفة بمثل ذلك إلا في ابن اللبون فإنه جعل مكانه عشرين ابن مخاض .

                                                                                                                                            وبه قال النخعي وأحمد وإسحاق وأضافوه إلى ابن مسعود استدلالا برواية عبد الرحمن بن سليمان عن الحجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : دية الخطأ مائة من الإبل عشرون جذعة وعشرون حقة ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن مخاض .

                                                                                                                                            ولأن بنت اللبون سن يجب دونها في الديات سن فوجب أن لا يجب ذكر من هذا السن كالجذاع والحقاق ، ولأن موضوع دية الخطأ على التخفيف لتحمل العاقلة لها فكان إيجاب بني المخاض أقرب إلى التخفيف من بني اللبون .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه قتادة عن لاحق بن حميد عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود أنه قال : دية الخطأ أخماس : عشرون جذعة ، وعشرون حقة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بنو لبون ذكرا ، وعشرون بنات مخاض ، هذا موقوف عليه .

                                                                                                                                            وقد روى إسماعيل بن عياش عن الحجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في دية الخطأ أخماسا : خمسا جذاعا ، وخمسا حقاقا ، وخمسا بنات لبون ، وخمسا بنات مخاض ، وخمسا بني لبون ذكرا .

                                                                                                                                            وهذه الرواية أثبت من رواية عبد الرحمن بن سليمان وأشبه بما رواه عن ابن مسعود ابنه أبو عبيدة وعلقمة وهو لا يفتي بخلاف ما يروي ثم يدل عليه ما حكاه الشافعي عن سليمان بن يسار من إجماع الصحابة أنهم كانوا يقولون : دية الخطأ مائة من الإبل : عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة . وسليمان تابعي وإشارته إلى من تقدمه محمول على الصحابة ، فصار ذلك إجماعا نقله عنهم .

                                                                                                                                            ومن طريق القياس : أن كل ما لا يجب في الزكاة لا يجب في دية الخطأ كالثنايا والفصال ، ولأن ما استحق من الإبل مواساة لم يجب فيه بنو المخاض كالزكاة ، ولأن بنات المخاض أحد طرفي الزكاة فلم يجب ذكورها في الدية كالجذاع في الطرف الأعلى .

                                                                                                                                            [ ص: 225 ] فأما الجواب عن حديثهم مع ضعف الحجاج بن أرطأة وأن خشف بن مالك مجهول لم يرو عنه إلا زيد بن جبير فهو أن ما رويناه عنه من خلافه وأنه وافق فيه الجماعة من إبدال بني اللبون مكان بني المخاض أولى .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الجذاع والحقاق فالمعنى فيه : أنه مال أقيم في الزكاة الذكر منها مقام سن دونها فلذلك لم تجب في الدية ، وبنو اللبون بخلافها .

                                                                                                                                            وأما قولهم إنها موضوعة على التخفيف ، فإذا تخففت من وجه لم يجب تخفيفها من كل وجه ، لأننا نوجب فيها مع التخفيف ما نوجبه في المغلظة من الجذاع والحقاق والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية