الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2078 135 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: سمعت مالكا وسأله عبيد الله بن الربيع قال: أحدثك داود، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق؟ قال: نعم.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 303 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 303 ] مطابقته للترجمة من حيث إن الحديث السابق فيه ذكر العرايا، وهذا الحديث في العرايا فهو مطابق له من هذه الحيثية، والمطابق للمطابق مطابق لذلك المطابق، والحديث السابق فيه ذكر العرايا مطلقا، وهذا الحديث يشعر أن المراد من ذلك المطلق هو المقيد بخمسة أوسق كما يجيء بيانه مفصلا إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي.

                                                                                                                                                                                  الثاني: مالك بن أنس.

                                                                                                                                                                                  الثالث: عبيد الله بتصغير العبد ابن الربيع، وكان الربيع حاجبا للخليفة أبي جعفر المنصور، وهو والد الفضل وزير الخليفة هارون الرشيد.

                                                                                                                                                                                  الرابع: داود بن الحصين بضم الحاء، وقد مضى في الباب الذي قبله.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، وقد مضى هو أيضا مع داود هناك.

                                                                                                                                                                                  السادس: أبو هريرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد بصيغة الاستفهام في موضع، وفيه السماع والسؤال، وهو إطلاق السماع على ما قرئ على الشيخ فأقر به بقوله نعم، والاصطلاح عند المحدثين على أن السماع مخصوص بما حدث به الشيخ لفظا، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه أن شيخه من أفراده، وهو بصري، وداود وأبو سفيان مدنيان، وقد ذكرنا أنه ليس لداود ولا لأبي سفيان حديث في البخاري سوى حديثين أحدهما هذا، والآخر عن أبي سعيد المذكور في الباب الذي قبله.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الشروط، عن يحيى بن قزعة، عن مالك به، وأخرجه مسلم في البيوع، عن القعنبي ويحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به، وأخرجه أبو داود فيه، عن القعنبي به، وأخرجه الترمذي فيه، عن قتيبة، وعن أبي كريب، عن زيد بن وهب، كلاهما عن مالك، وأخرجه النسائي فيه وفي الشروط، عن إسحاق بن منصور الكوسج ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: "رخص" بالتشديد من الترخيص، كذا هو عند الأكثرين، وفي رواية الكشميهني أرخص من الإرخاص.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في بيع العرايا" أي: في بيع ثمر العرايا; لأن العرايا هي النخل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في خمسة أوسق" وهو وسق بفتح الواو، وقيل: بالكسر أيضا، والفتح أفصح، وهو ستون صاعا، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز وأربعمائة وثمانون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد، والأصل في الوسق الحمل، وكل شيء وسقته فقد حملته.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أو دون خمسة أوسق" شك من الراوي، وقد بينه مسلم في روايته أن الشك من داود بن الحصين، ولفظه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة، شك داود، قال: "خمسة أو دون خمسة" والحديث رواه الطحاوي أيضا: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا القعنبي وعثمان بن عمر قالا: حدثنا مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق، شك داود في خمسة أو فيما دون خمسة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قال: نعم" القائل هو مالك، وهذا التحمل يسمى عرض السماع، وكان مالك يختاره على التحديث في لفظه، واختلف المحدثون فيما إذا سكت الشيخ فالصحيح أنه ينزل منزلة الإقرار إذا كان عارفا ولم يمنعه مانع، والأولى أن يقول: نعم؛ لما فيه من قطع النزاع.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) قال ابن قدامة في المغني: العرايا لا تجوز إلا فيما دون خمسة أوسق، وبهذا قال ابن المنذر والشافعي في أحد قوليه، وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: تجوز في الخمسة، ورواه الجوزجاني، عن إسماعيل بن سعيد، عن أحمد، واتفقا على أنها لا تجوز في الزيادة على خمسة أوسق، وقال أيضا: إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر لا أقل منه ولا أكثر، ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلوما بالكيل، ولا يجوز جزافا، ولا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافا، واختلف في معنى خرصها من التمر فقيل: معناه أن يطيف الخارص بالعرية فينظر كم يجيء منها تمرا فيشتريها بمثله من التمر، وهذا مذهب الشافعي، ونقل حنبل، عن أحمد أنه قال بخرصها رطبا ويعطى تمرا، ولا يجوز أن يشتريها بخرصها رطبا، وهو أحد [ ص: 304 ] الوجوه لأصحاب الشافعي، والثاني: يجوز، والثالث: يجوز مع اختلاف النوع، ولا يجوز مع اتفاقه، ولا يجوز بيعها إلا لمحتاج إلى أكلها رطبا، ولا يجوز بيعها لغني، وهذا أحد قولي الشافعي، وأباحها في القول الآخر مطلقا للغني والمحتاج، ولا يجوز بيعها في غير النخل، وهو مذهب الليث، وقال القاضي: يجوز في بقية الثمار من العنب والتين وغيرهما، وهو قول مالك والأوزاعي وأجازه الشافعي في النخل والعنب دون غيرهما. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي: قوله: فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ما يدل أنه يختص بما يوسق ويكال، وقال الكرماني: قال الشافعي: الأصل تحريم بيع المزابنة، وجاءت العرايا رخصة، والراوي شك في الخمسة فوجب الأخذ باليقين وطرح المشكوك، فبقيت الخمسة على التحريم الذي هو الأصل. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يرد عليه ما رواه أحمد والطحاوي والبيهقي من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الواسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في كل عشرة أقناء قنو يوضع في المسجد للمساكين ، هذا لفظ الطحاوي، والأقناء جمع قنو بكسر القاف وسكون النون، وهو العذق بما فيه من الرطب، وقال المازري : ذهب ابن المنذر إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق لوروده في حديث جابر من غير شك فيه، فتعين طرح الرواية التي وقع فيها الشك والأخذ بالرواية المتيقنة، قال: وألزم المزني الشافعي - رضي الله تعالى عنه - القول به. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الإلزام موجود فيما رواه أحمد والطحاوي - رضي الله تعالى عنهما - أيضا، وقال بعضهم: وفيما نقله المازري نظر; لأن ما نقله ليس في شيء من كتب ابن المنذر. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذه مدافعة بغير وجه؛ لأنه لا يلزم من نفي كون هذا في كتبه بدعواه أن يرد ما نقله المازري لإمكان اطلاعه فيما لم يطلع عليه هذا القائل، واحتج بعض المالكية بأن لفظة "دون خمسة أوسق" صالحة لجميع ما تحت الخمسة، فلو علمنا بها للزم رفع هذه الرخصة، ورد بأن العمل بها ممكن بأن يحمل على أقل ما تصدق عليه، قيل: وهو المفتى به في مذهب الشافعي.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية