الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1973 31 - حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث رفعه إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "فإن صدقا وبينا" إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: سليمان بن حرب أبو أيوب [ ص: 195 ] الواشحي.

                                                                                                                                                                                  الثاني: شعبة بن الحجاج.

                                                                                                                                                                                  الثالث: قتادة بن دعامة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: صالح بن أبي مريم أبو الخليل الضبعي.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أبو محمد الهاشمي.

                                                                                                                                                                                  السادس: حكيم - بفتح الحاء وكسر الكاف - ابن حزام - بكسر الحاء المهملة وخفة الزاي - الأسدي، وقد مر في الزكاة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده):

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه أن شيخه بصري، وشعبة واسطي، وقتادة وصالح بصريان، وعبد الله بن الحارث مدني تحول إلى البصرة، وفيه قتادة عن صالح، وفي رواية تأتي بعد بابين: عن قتادة قال: سمعت أبا الخليل يحدث عن عبد الله بن الحارث.

                                                                                                                                                                                  وفيه رفعه إلى حكيم، إنما قال ذلك ليشمل سماعه عنه بالواسطة وبدونها.

                                                                                                                                                                                  وفيه ثلاثة من التابعين; الأول قتادة، والثاني صالح، والثالث عبد الله بن الحارث، وهو معدود في التابعين ومذكور في الصحابة; لأنه ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي به فحنكه، ولم ينسب في شيء من طرق حديثه في الصحيح، لكن وقع لأحمد من طريق سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث الهاشمي. ورواه ابن خزيمة، والإسماعيلي عنه من وجه آخر، عن شعبة فقال: عن قتادة سمعت أبا الخليل يحدث عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وحديث آخر عن العباس في قصة أبي طالب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في البيوع، عن بدل بن المحبر، وعن سليمان بن حرب، فرقهما، كلاهما عن شعبة، وفي حديث بهز وحبان، عن همام: وحدثني أبو التياح، عن عبد الله بن الحارث بهذا، وعن حفص بن عمرو، عن إسحاق بن حبان، عن همام به. وأخرجه مسلم في البيوع أيضا، عن أبي موسى، عن يحيى، وعن عمرو بن علي، عن يحيى، وعن عمرو بن علي، عن همام به. وأخرجه أبو داود فيه، عن أبي الوليد، عن شعبة به. وأخرجه الترمذي فيه، عن ابن بشار، عن يحيى به. وأخرجه النسائي فيه وفي الشروط، عن عمرو بن علي، عن يحيى به، وعن أبي الأشعث، عن سعيد، عن قتادة به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "البيعان" هكذا هو في سائر طرق الحديث، وفي بعضها "المتبايعان" قال شيخنا: ولم أر في شيء من طرقه "البائعان" وإن كان لفظ البائع أشهر وأغلب من البيع، وإنما استعملوا ذلك بالقصر والإدغام من الفعل الثلاثي المعتل العين في ألفاظ محصورة، كطيب وميت وكيس وريض ولين وهين، واستعملوا في " باع" الأمرين، فقالوا: بائع وبيع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما لم يتفرقا" هو كذلك في أكثر الروايات بتقديم التاء وبالتشديد، وعند مسلم "ما لم يفترقا" بتقديم الفاء وبالتخفيف، وقد فرق بينهما بعض أهل اللغة، عن ثعلب أنه سئل: هل يتفرقان ويفترقان واحد؟ أم غيران؟ فقال: أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضل قال: يفترقان بالكلام، ويتفرقان بالأبدان. انتهى. وقال شيخنا زين الدين: هذا يؤيد ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد هنا التفرق بالأبدان، وقال ابن العربي: والذي نقله المفضل - أو نقل عنه - من الفرق بين التفعل والافتعال لا يشهد له القرآن، ولا يعضده الاشتقاق، قال الله تعالى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب فذكر التفرق فيما ذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الافتعال في قوله: "افترقت اليهود والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإن صدقا" أي فإن صدق كل واحد منهما في الإخبار عما يتعلق به من الثمن ووصف المبيع ونحو ذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وبينا" أي وبين كل واحد منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة أو الثمن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بورك لهما في بيعهما" أي كثر نفع المبيع والثمن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وإن كتما" أي وإن كتم البائع عيب السلعة، والمشتري عيب الثمن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكذبا" أي وكذب البائع في وصف سلعته، والمشتري في وصف ثمنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "محقت" من المحق، وهو النقصان وذهاب البركة. وقيل: هو أن يذهب الشيء كله، حتى لا يرى منه أثر، ومنه: يمحق الله الربا أي يستأصله ويذهب ببركته، ويهلك المال الذي يدخل فيه، والمراد يمحق بركة البيع ما يقصده التاجر من الزيادة والنماء، فيعامل بنقيض ما قصده، وعلق الشارع حصول البركة لهما بشرط الصدق والتبيين، والمحق إن وجد ضدهما، وهو الكتم والكذب.

                                                                                                                                                                                  وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه المشروط دون الآخر؟ ظاهر الحديث يقتضيه، ولكن يحتمل أن يعود شؤم أحدهما على الآخر.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): اختلف العلماء في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم "ما لم يتفرقا" فقال إبراهيم النخعي والثوري في رواية [ ص: 196 ] وربيعة ومالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: المراد بالتفرق فيه هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: بعت، وقال المشتري: قبلت، أو اشتريت - فقد تفرقا، ولا يبقى لهما بعد ذلك خيار، ويتم به البيع، ولا يقدر المشتري على رد المبيع، إلا بخيار الرؤية أو خيار العيب أو خيار الشرط، وقال أبو يوسف وعيسى بن أبان وآخرون: التفرقة التي تقطع الخيار هي الافتراق بالأبدان بعد المخاطبة بالبيع قبل قبول الآخر، وذلك أن الرجل إذا قال لآخر: قد بعتك عبدي بألف درهم، فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارق صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل، وقال سعيد بن المسيب والزهري وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والأوزاعي والليث بن سعد وابن أبي مليكة والحسن البصري وهشام بن يوسف وابنه عبد الرحمن وعبيد الله بن الحسن القاضي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو سليمان ومحمد بن جرير الطبري وأهل الظاهر: الفرقة المذكورة في الحديث هي التفرق بالأبدان، فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان، والحاصل من ذلك أن أصحابنا قالوا: إن العقد يتم بالإيجاب والقبول، ويدخل المبيع في ملك المشتري، وإثبات خيار المجلس لأحدهما يستلزم إبطال حق الآخر فينتفي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" والحديث محمول على خيار القبول; فإنه إذا أوجب أحدهما فلكل منهما الخيار ما داما في المجلس ولم يأخذا في عمل آخر، وفي لفظه إشارة إليه; فإنهما متبايعان حالة البيع حقيقة، وما بعده أو قبله مجاز، أو بعد العقد خيار المجلس غير ثابت; لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فأباح الأكل بوجود التراضي عن التجارة، فالبيع تجارة، فدل على نفي الخيار وصحة وقوع البيع للمشتري بنفس العقد وجواز تصرفه فيه، وقال تعالى: أوفوا بالعقود وهذا عقد يلزم الوفاء بظاهر الآية، وفي إثبات الخيار نفي لزوم الوفاء به، وفي الحديث ما يدل على أن نصيحة المسلم واجبة، وهذا هو الأصل في هذا الباب، وقد كان سيد الخلق يأخذها في البيعة على الناس كما يأخذ عليهم الفرائض، قال جرير: "بايعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على السمع والطاعة، فشرط علي النصح لكل مسلم" وصح أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فحرم بهذا غش المؤمن وخديعته. والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية